93

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

تناولنا «المخيلة المتسلطة» أو «الخيال الدكتاتوري» في الفقرات السابقة ورأينا أنه قد يصل في بعض قصائد «الإشراقات» إلى حد العبث والمحال. ولو نظرنا مثلا في القصيدة الأولى منها، وهي «بعد الطوفان» لوجدنا فيها الأرنب الذي يجلس على العشب ويتلو صلاته لقوس قزح من خلال شبكة العنكبوت، ولوجدنا كذلك السيدة التي تضع المعزف (البيانو) في جبال الألب. والفندق الفخم الذي يبنى في عماء الثلج وليل القطب. والقمر الذي يسمع عواء بنات آوى في الصحاري، وزمجرة قصائد الرعاة ذات الأحذية الخشبية في البساتين، والملكة الساحرة التي تنفخ نارها في الوعاء الفخاري، والتي لن تحكي لنا أبدا ما تعرفه ولا نعرفه.

هكذا تزخر معظم هذه القصائد بخليط من الصور المتباعدة الممزقة، غير أن فيها إمكانيات أخرى لما وصفه بودلير بالتجريد. ويصدق هذا على بعض نصوص رامبو التي نرى فيها نسيجا مجردا من الخطوط والحركات الخالصة من كل أثر للأشياء المادية. ولنضرب لهذا مثلا بقصيدة قصيرة هي قصيدة «الجسور»:

سماوات رمادية من البللور. نسيج غريب لجسور، هذه مستقيمة، وتلك مقوسة، وأخرى تهبط بزوايا منحرفة فوق الأولى، وكل هذه الأشكال تتكرر في التعرجات المضاءة من القنال، ولكنها جميعا من الطول والخفة بحيث تميل الأنهار المحملة بالقباب، وتختفي. بعض هذه الجسور لا يزال مثقلا بأسوار قديمة، وبعضها الآخر يحمل أشرعة ، وأعمدة إشارة، وحواجز هشة. أنغام من الديوان الصغير (المول)، تتشابك معا وتسبح في خطوط. أوتار تصعد من المنحدرات. تتبين سترة حمراء، وربما ميزت العين ملابس أخرى وآلات موسيقية. أهذه أنغام شعبية، شذرات من حفلات موسيقية يؤمها علية القوم، بقايا أناشيد عامة؟ الماء داكن وأزرق، عريض كلسان البحر.

شعاع أبيض يهبط من علياء السماء ويبدد هذه الملهاة.

قد تكفي القراءة الأولى لتبين أن الشاعر يسير في وصفه على نهج دقيق. ولكن القراءة الثانية سرعان ما تكشف لنا أن الموضوع الذي يتناوله موضوع خيالي، وأن هذه المدينة التي يصف لنا جزءا منها مدينة بلا مكان ولا زمان، لم تأت عن طريق النسخ من الواقع بل عن طريق الرؤية الخيالية. إنه يصف مجموعة من الجسور، ولكن ليس المهم في هذه الجسور هو حجمها المادي، بل خطوطها المختلفة من مستقيمة ومقوسة ومنحرفة الزوايا، بحيث تتولد في النهاية صورة أو تركيبة شاذة وغريبة (لنتذكر هنا أن الغرابة في رأي بودلير تتصل بالتجريد والأرابيسك). وتلخص القصيدة هذه الخطوط جميعا فتصفها بأنها «أشكال». وتتكرر هذه الأشكال وتنعكس في المنعرجات الأخرى من القنال. ولكن القصيدة لا تذكر لنا شيئا عن هذه المنعرجات «الأخرى». ونلاحظ أن قوانين الثقل قد ألغيت، فالأشكال (التي نراها الآن على هيئة الجسور) قد بلغت من خفة الوزن حدا جعلها تحمى الشواطئ الثقيلة، أي أن الخفيف يضغط على الثقيل. ثم نرى خطوطا جديدة، تتألف في هذه المرة من أنغام تتحول إلى خطوط تسبح وترف في الهواء. وتأتي بعدها إشارات موجزة لسترة حمراء وآلات موسيقية، إلى أن نفاجأ بالخاتمة الغريبة التي يتبدد معها كل شيء، ويظل كل شيء عصيا على الفهم. صحيح أن تركيب الجمل بسيط غاية البساطة، ولكنه ينطوي على غرابة شاملة، تضاعف منها دقة التعبير وبرودته الشديدة. سنلاحظ أيضا أن القصيدة لا تذكر شيئا عن الناس، ومع أنها تشير إشارات عابرة إلى سترة حمراء وآلات موسيقية، وأنغام لا نعرف أصلها، فإن هذه الإشارات تظل منعزلة وتؤكد غيبة البشر عن جو القصيدة. قد نقول إن البديل هو وجود الأشياء بكثرة فائقة، ولكن هذه الأشياء تذكر دائما في صيغة الجموع غير المحددة، كما أن العلاقات التي تربط بينها علاقات عبثية أو غير معقولة لا تدل على صلة ضرورية بين الأسباب والنتائج. لقد تعرت هذه الأشياء من ثيابها المادية وتحولت إلى محض خطوط وحركات خالصة وتجريدات هندسية. ومهما تكن درجة اللاواقعية في هذه اللوحة كلها، فإن الخاتمة المفاجئة التي تحمل معها الدمار والفناء تزيدها غرابة ولا واقعية!

إن رامبو يتحرك في هذا العالم الغريب الذي لا يوجد في مكان ولا زمان بغير أدنى انفعال. بل لقد أصبحت لديه القدرة على التخلي عن تفجراته الصارخة المتمردة التي كانت تدفع بكتاباته المبكرة إلى الغرابة؛ ذلك لأنه يعيش الآن في صميم هذه الغرابة.

إن نظرته الحادة تأخذ الآن كل ما أبدعته بنفسها من غرابة وشذوذ مأخذ الأمور العادية المألوفة وتسلمه إلى لغة تتحدث عنه بلهجة من يتحدث عن شيء بديهي ومفهوم بذاته. غير أنها لا تسأل نفسها لمن ترويه، لأنها ترويه للاأحد! (17) شعر حديث ذاتي (مونولوج)

أصبح شعر رامبو بعد سنة 1871م مونولوجا أو حوارا مع الذات. وإذا كان الدارس يستفيد فائدة كبيرة من مقارنة مسودات الشاعر أو الكاتب ومخطوطاته بالصيغة الأخيرة التي ترك عليها نصوصه، فإن دارس رامبو الذي يقارن مسوداته الباقية من بعض أعماله النثرية بصيغتها التي بين أيدينا سيرى بنفسه إلى أي مدى كان الشاعر يغير فيها، وفي أي اتجاه كان يسير تفكيره. لقد أصبحت الجمل تميل إلى الإيجاز والتركيز، وزادت جرأته في إغفال أدوات الربط بين أجزاء العبارة، وكثرت فيها الكلمات الغريبة الشاذة كثرة ملحوظة. وإذا أخذنا برواية بعض معاصريه فسنجد أنه كان يستهلك كميات هائلة من الورق قبل أن يصل إلى الصيغة التي ترضيه، وأنه كان يتردد طويلا ويفكر كثيرا قبل أن يضع فاصلة أو يحذف صفة، بل لقد كان من عادته أن يحتفظ بمجموعة من الكلمات المهجورة أو النادرة الاستعمال ليلجأ إليها في نظم قصائده. وهذه الأخبار كلها تدل - إن صدقت - على أن رامبو كان يسير على نفس الطريقة التي سار عليها الشعراء الكلاسيكيون المشهورون بالوضوح ورصانة الأسلوب. ومن هنا يمكن تفسير الغموض في شعره بأنه لم يكن نتيجة جموح في العاطفة بقدر ما كان نتيجة تدبير فني محكم، ولذلك يصبح شيئا منطقيا ومعقولا في إطار هذا الشعر الذي يضطر تحت إلحاح عاطفة متأججة فشلت في تحقيق المجهول والوصول إليه - إلى تحطيم المألوف وتغريب كل ما هو معروف، ولننظر إلى هذه العبارة التي يقولها رامبو في إحدى كتاباته المتأخرة (ص219): «كنت أدون ما لا يمكن التعبير عنه، كنت أقبض على الدوامات.» ثم إلى هذه العبارة التي ترد بعد ذلك بصفحات قليلة: «لم أعد قادرا على الكلام.» وبين هذين الموقفين المتباعدين يمضي شعر رامبو المظلم الغامض؛ غموض ما لم يقله أحد من قبل، وغموض ما لم يعد من الممكن قوله، بعد أن تقف اللغة عند حدود الصمت واستحالة التعبير عما يستحيل التعبير عنه (وهي تجربة المتصوفين في كل اللغات والعصور).

قد نسأل: ولماذا يكتب الشعر من لا يخاطب به أحدا؟ ولكن السؤال عسير على الجواب. قد نجرب مع ذلك فنقول إن مثل هذا الشعر يكون محاولة أخيرة لإنقاذ حرية العقل والروح عن طريق الخيال المتسلط والقول المغرب الشاذ، في موقف تاريخي يبذل فيه العلم والتمدن وأجهزة الاقتصاد والتقنية أقصى جهودها لتنظيم الحرية وطبعها بخاتم الشمولية، أعني بقتل جوهرها وروحها. هل نعجب بعد ذلك إذا وجدنا الشاعر الذي طرد من كل مسكن وملجأ، يبني من أبيات شعره مسكنه وملجأه الوحيد؟ ألا يجوز أن يكون هذا هو السبب الذي يدفعه لكتابة الشعر؟ (18) دينامية الحركة وسحر اللغة

ينشأ نسيج التوتر في شعر رامبو عن طاقات من النوع الذي نجده في الموسيقى، والموسيقى الحديثة بوجه خاص.

Unknown page