[الأعراف: 33] دليل على أن كل معصية ولو صغيرة تسمى فاحشة، والأمر المذكور عن الشيطان حقيقة، لأنه يقول، افعلوا كذا على طريق الالتماس، على أنه يسويهم بنفسه، أو لأنه يدعى العلو عليهم، ولو لم يكن عنده أو اعتقد أنه أعلى، ولا حاجة إلى أن تقول شبه الوسوسة فى المعاصى بالأمر بها، ولا إلى أن نقول شبه تزيين المعاصى بالأمر بها، على أن ذلك استعارة، ولا يلزم من الأمر ولو كان من عال تسلط قهر، فلا مناداة بين الآية وقوله تعالى:
ليس لك عليهم سلطان
[الحجر: 42]، { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } أى وبأن تقولوا كاذبين على الله، أو ضمن تقولوا معنى الكذب، أو عن الله ما لا علم لكم به، من تحريم السائبة ونحوها، وتحليل الميتة ونحوها، واتخاذ الأنداد، وليس قول المجتهد قولا بما لا يعلم، لأنه يقول استدلالا بما يستنبط من القرآن والسنة والإجماع، قصدا للحق لا اتباعا للهوى، وقد أباح الله له ذلك، وإن اختلف المجتهدون فالحق عند الله مع واحد فقط، وغيره مأجور، ويجوز العمل بما قال، وقد يكون الحق عند الله غير ما قالوا، مع أن ما قالوا لا يعد ضلالا عليهم، وقالت المعتزلة: الحق متعدد بحسب أقوال المجتهدين، وهو ضعيف، وإما أن يقال كل واحد مأجور يجوز العمل بما قال، وأن كل واحد العمل به حق فى حق المقلد فلا بأس.
[2.170]
{ وإذا قيل لهم } للناس وهم كفار { اتبعوا مآ أنزل الله } فى القرآن، وفى العقول من الحجج العقلية من التوحيد وتحليل السائبة ونحوها { قالوا } لا نتبع ما تزعمون أنه من الله { بل نتبع مآ ألفينا } وجدنا { عليه ءابآءنا } من عبادة الأصنام وتحريم السوائب، ويبعد أن يكون الضمير لليهود الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وأن ما أنزل الله هو التوراة والإنجيل والقرآن، لأن الثلاثة تدعو إلى الإسلام، ولو روى أنها نزلت فى طائفة منهم دعاهم، فقالوا نتبع ما عليه آباؤنا، لأنهم أعلم منا، وإنما قلت يبعد ذلك لأن الآيات والضمائر قبل ذلك فى غيرهم، وعلى هذه الرواية لو صحت يكون المراد بما ألفينا عليه آباءنا، وجدوا عليه أسلافهم من اليهود، مما يخالف الحق ألبتة، أو كان حقا، ونسخه القرآن، وقي الضمير عائد إلى من يتخذ، أو إلى ما يفهم من أن الذين يكتمون أو إلى المشركين، ولا يلزم من النزويل فى قوم رد الضمير إليهم، والغيبة بعد الخطاب وتلويح بأنهم ليسوا من أهل الخطاب، فصرف عنهم إلى أهله بإخبار أهله عنهم { أو لو كان ءابآؤهم } زيادة فى كلامهم على طريق الاستفهام التوبيخى، والهمزة، مما بعد الواو، أو مستأنف توبيخ، أى أيتبعون آباهم ولو كان آباؤهم { لا يعقلون شيئا } من أمور الدين التى خالفوها وأمروا باتباعها { ولا يهتدون } إلى الحق.
[2.171]
{ ومثل الذين كفروا } من اليهود والنصارى وغيرهم ومشركي العرب والذين يدعونهم إلى الإيمان النبى والمؤمنين، أى مثل الكافرين مع المؤمنين كمثل الغنم مع راعيها، كما قال { كمثل الذي ينعق } يصوت من رعاة الغنم عليها { بما لا يسمع } أى على ما لا يسمع، وهو الغنم { إلا دعآء ونداء } صوتا بلا فهم لمعناه، لما صاح بها لتمشى أو تقف، ولو فهمت منه على الاعتياد أنها تقف أو تمشى، وأيضا هذا الفهم ليس فهما لوضع الصوت لمعناه، بل فهما لتوسط ضربها أولا بالحجر لتقف أو تمشى، وإنما قدرت مع الذين يدعونهم إلى الإيمان بلفظ مع لا بالواو ليناسب قوله كمثل الذى الخ، من المتقدم فيه الراعى، كذلك فإن مع أصلها أن تدخل على الراجح المصحوب، فالراجح المصحوب هو النبى والمؤمنون، أو يقدر، ومثل داعى الذين كفروا للإيمان كمثل الذى ينعق، أو يقدر مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذى ينعق. وعلى كل حال فالنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يدعون الكفار إلى الإيمان ولا يعرفون المقصود، لانهما كهم فى التقليد وكونهم أميين، وإعراضهم تجاهلا، كما يصيح الراعى على غنمه، ولا تفهم حكمة موضوع الصوت، ولو وقفت به أو مشت فهم أضل منهما إذ تمتثل ولا يمتثلون، أو المعنى مثل الذين كفروا فى دعاء الأصنام كمثل الناعق فى غنمه، بل الناعق فوقهم، لأن الغنم تسمع وتحس بحلاف الأصنام، والدعاء والنداء مترادفان فيما قيل، فلعله كرر تأكيدا كأنه قيل أصواتا كثيرة، أو الدعاء ما يدل على معنى امشى، أو قفى، أو اشربى أو كلى، أو نحو ذلك، من فعل، أو اسم فعل أو اسم، صوت، والنداء ما يزاد على ذلك، كها، وياء مما يتلفظ به فى البهائم، ويبعد ما قيل إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد، كقول الأعرابى: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، لأن النداء يكون أيضا للقريب ، كما ينادى بالهمزة وأى للقريب، وقيل الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع، { صم بكم عمي } هم صم، بكم، عمى، أى لا يسمعون الحق ولا ينطقون به ولا يرونه { فهم لا يعقلون } الموعظة والأحكام الشرعية، أى لا يدركونها، وليس المراد نفى عقل التكليف على سبيل تنزيل وجوده منزلة العدم، ولفقد ثمرته، لأنه لا يصح ترتبه بالفاء، كذا قيل، وفيه أنه لا مانع من أن يقال هم صم بكم عمي لا يدركون، فهم لذلك كمن لا عقل له كالمجنون.
[2.172]
{ يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبت } لذائذ { ما رزقنكم } لا تحرموها على أنفسكم ولو اعتقدتم حلها. نزلت فيمن عزم من الصحابة على أن يمنع نفسه منها، والطيبات الحلال مطلقا فيدخل فيها اللذائذ { واشكروا الله } على حل أكلها، والأمر بالأكل للإباحة العامة فى الطيبات، أو فى اللذائذ، إباحة تأكيد لتقدمها فى آى أخر ولعهدها فى الأذهان، وخارجا وعملا، كرر ذلك تشخيصا للمؤمنين، وتخصيصا بأنهم الأهل لها، وتشريفا لهم، وليرتب عليه ذكر الشكر وتحريم الميتة وما بعدها { إن كنتم إياه تعبدون } إذ عبادته لاتتم إلا بالشكر، أى إن كنتم تريدون عبادته عبادة تامة، والمراد الشكر باللسان، أو أن يستشعر فى العبادة أنه يعبده لأجل نعمه، وأما الشكر بمعنى استعمال القلب واللسان والجارحة فلا تفسر به الآية؛ لأن المعنى يكون بذلك واشكروا لله إن كنتم إياه تشكرون، وهو لا يصح، وتقديم إياه للاهتمام، والفاصلة، وإن جعلناه للقصد كان المعنى: واشكروا لله إن كنتم خصصتموه بالعبادة، فالقيد حصر العبادة له، لا نفس العبادة، فمن لم يشكر له، بل شكر غيره لم يخصه بالعبادة، قال صلى الله عليه وسلم:
" الحمد رأس الشكر، وما شكر الله من لم يحمده "
Unknown page