{ بلى } تمسكم النار مع الخلود فيها، واحتج عليهم بما قضى فى الأزل وكتب فى اللوح المحفوظ من قوله { من كسب سيئة } ذنبا كبيرا أو صغيرا أصر عليه، فالسيئة تشمل الشرك وما دونه، ولا دليل على تخصيص الشرك، ويدل على ما قلت قوله فى أهل الجنة، وعملوا الصالحات، وقومنا مجتمعون معنا على أن الإصر محبط للأعمال الصالحات، ودعوى أنه يحبط ثواب الأعمال ويبقى ثواب التوحيد، أو دخول الجنة لا دليل عليها، والله يقول
وعملوا الصالحات
[البقرة: 82] ومن أين لهم أن يقولوا بلا عمل للصالحات، وحديث دخول الجنة بمجرد التوحيد محمول على ما قبل أن تفرض الفرائض، وقد قال بهذا بعض سلفهم كما بينته فى وفاء الضمانة بأداء الأمانة، ومن شأن السيئة غير المتوب منها أن تجر سيئات، وهو قوله { وأحطت به خطيئته } سيئاته، أو أشار إلى أنه لما لم يتب عن السيئة لم تغفر له صغائره لإصراره أحدقت به من كل جانب إذا لم يتب منها كلها، ولو تاب من بعضها، وقيل: لا يعاقب على ما تاب منه، وهو قول لا بأس به، فيحيط به ما لم يتب منه ولو واحدة { فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون } لا يخرجون منها، المشركون والفاسقون، والأصل فى الخلود الدوام، وحمله على المكث الطويل إنما يصح لدليل، ولا خلاف فى دوام المشرك فىالنار، ومعنى إحاطة الخطيئة به أنها أهلكته إذ لم يتخلص منها بالتوبة، وليس المراد أنها به معنى أنها فى قلبه وجوارحه، فلا دليل فى الآية على أن الخلود إنما هو لمن عمت قلبه بالشرك لأنا إذا صرنا إلى معنى تعميم البدن بالمعصية ورد علينا أن من جسد الكافر ما لم تصدر منه معصية، مثل عنقه وأ'لى صدره إذا لم تصدر منهما.
[2.82]
{ والذين آمنوا وعملوا الصلحت } شامل للتقوى، إذ ترك المعاصى من الأعمال الصالحات، وهكذا حيث لم يذكر التقوى مع العمل الصالح وذلك أولى من حمل المطلق على المقيد بالتقوى فى الآى الآخر، أو يقدر، وعملوا الصالحات واتقوا، وكذا فى سائر القرآن، فلا دليل فى الآية على أن العمل الصالح قد ينجو صاحبه مع عدم التوبة من الذنوب { أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون } دائمون، وخلود أهل النار فيها، وأهل الجنة فيها دوام.
[2.83-84]
{ وإذ أخذنا ميثق بني إسراءيل لا تعبدون إلا الله } إما مفعول لأخذنا لتضمنه معنى قلنا، واللفظ نفى، والمعنى نهى، وحكمته الحث على المسارعة للامتثال، حكى أنه قد امتثل فأخبر عنه، وصونا للكلام عن الكذب إن كان بصيغة الإخبار فلم يمتثل فلا حاجة إلى تقدير قلنا، ووجه ذلك، أن أمر الله عز وجل بشىء أو نهيه عنه أخذ للميثاق، ولو لم يقل المأمور والمنهى نعم، وإما جواب للقسم الذى هو الميثاق، ومقتضى الظاهر على هذا لا يعبدون بالتحتية، وإما تفسير لأخذ الميثاق، وهكذا فيما يأتى من القرآن تتصور فيه هذه الأوجه { وبالوالدين إحسنا } أى أحسنوا، أو تحسنون بالوالدين إحسانا أى أحسنوا، أو استواصوا بالوالدين، أى بالوالد والوالدة، فغلب المذكر، ويبعد تفسير الميثاق هنا بميثاق ألست بربكم، والآية مفصحة بعظم الإحسان إلى الوالدين، إذ قرن بطاعة الله تعالى { وذي القربى } القرابة كالرجعى بمعنى الرجوع { واليتمى والمسكين } أحسنوا إلا هؤلاء بالمال والخدمة والنفع بالجاه والبدن والرفق وتعليم العلم، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وهم على ذلك الترتيب، فالله أحق، لأنه الخالق المنعم، وحقه أعظم من كل حق، ثم الوالدان لأنهما سبب وجود الولد، ومتلقيان المشاق فى الولد، ثم ذو القربى، لأنه بواسطتهما، والرضاع لحمه كالحمة النسب، ثم اليتيم لأنه أصعف لصغره من المسكين، مأخوذ من اليتيم بمعنى الانفراد، كدرة يتيمة، وهو من بنى آدم من مات أبوه قبل بلوغه، ولا يتم بعد بلوغ، ومن الدواب من ماتت أمه، وفى الطير من ماتا عنه، وقد يطلق على من ماتت أمه من الآدميين، وأفرد الغريب لأن القربى مصدر يصلح للأكثر، فتبعه المضاف، وهو ذى، والإشارة إلى أنهم كواحد ولو كثروا فلا تقصروا فى حقهم { وقولوا للناس حسنا } بضم فإسكان، أى حسنا بفتحهما، أو ذا حسن، وهو الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وتعليم الجاهل، والصدق فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، والدعاء إلى التوحيد، والرفق بهم بما يحبونه مما لا معصية فيه ليذعنوا، وليس مما ينسخ { وأقيموا الصلوة } المفروضة عليكم فى التوراة { وءاتوا الزكوة } على ما فرض عليكم فيها، وهو ربع المال، تنزل النار فتحرقه، أو تأخذه، أو شىء كالنار، وذلك علامة قبوله، ولا تحرق الحيوان، وهذا خطاب لأوائلهم المأخوذ عليهم الميثاق ومن بعدهم، والكلام فى ذلك لا فى المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن معاصريه تجب عليهم الصلاة والزكاة على ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم، أمرناكم بما ذكر من إفراد الله بالعبادة، وما بعده إلى إيتاء الزكاة، وقبلتم { ثم توليتم } عن الوفاء { إلا قليلا منكم } وهو من اتبع التوراة والإنجيل قبل البعثة كعبد الله بن سلام { وأنتم معرضون } عن الوفاء.
والآية كقوله
ولى مدبرا
[النمل: 10] وقيل، التولى الانصراف لحاجة مع ثبوت العقد، والإعراض الانصراف بالقلب، وقيل التولى الرجوع إلى ما كان أولا، والإعراض أخذ طريق آخر، والخطاب لمن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيز أن يكون الخطاب بقوله " وأنتم معرضون " لمعاصريه، أو المعنى معرضون عن الفكر فلا تأكيد، أى وأنتم معرضون عن الوفاء بعهد التوراة، والإنجيل قبل البعثة وقد وجب عليكم اتباعهما. وعن الوفاء بالقرآن بعد البعثة، وقد وجب عليكم اتباعه بعدها ويضعف أن يقال، معرضون عن الغضب على المتولين، أو عن القليل الذين لم يتولوا، بأن لم توالوهم وتحبوهم، والأولى أن الخطاب للآباء، لأن ما قبله وما بعده لهم، باعتبار آبائهم، وهو قوله:
Unknown page