[3.141]
{ وليمحص الله الذين ءامنوا } أى يبتليهم أو يخلصهم من الذنوب بما يصيبهم كمحص الذهب بالنار، بمعنى أخلصه بها مما يشوبه، وذلك إن كانت الدولة عليهم، والمحص إزالة العيب عن الجسم مع بقاء الجسم { ويمحق الكافرين } إن كانت عليهم، والمراد بهم المشركون الذين حاربوه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والمحق الإهلاك، وأصله نقص الشىء قليلا قليلا، حتى يفنى جسمه كله.
[3.142]
{ أم حسبتم } بل أظننتم، أو بل ظننتم، أو أظننتم، وذلك إنكار، والخطاب لمن انهزم من المؤمنين يوم أحد { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } إنكار لليافة أن يدخل المنهزمون يوم أحد من المسلمين الجنة، والحال أنهم لم يجمعوا بين الجهاد والصبر على الشدائد، فيعلم الله جمعهم، وإذا كان علمه الله، وإذا لم يكن لم يجز أن يقال علم الله أنه كان إلا أن جهادهم وصبرهم كان متوقعا، فكان النفى لذلك بلما، أى ستجاهدون وتصبرون، فيعلم الله أنكم جاهدتم وصبرتم،وأما الآن فجاهدتم ولم تصبروا، إذ فررتم، ونفى العلم كناية عن نفى المعلوم، وهو الجهاد والصبر معا نفى ملزوم بنفى لازم، إذ لا يتحقق شىء بدون علمه تعالى، والواو للمعية كلا تأكل السمك وتشرب اللبن بنصب تشرب، والآية تدل أن الجهاد فرض كفاية.
[3.143-144]
{ ولقد كنتم تمنون الموت } تتمنون لقاء الموت، أى الحرب، سماها موتا لأنها سبب، أى الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حربا لينالوا ما نال شهداء بدر، وألحوا فى الخروج إلى أحد مع كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر، وليس فى ذلك إعانة أهل الشرك، لأن القصد نيل الثواب لا غلبتهم، مع أن موت بعض قليل ليس غلبة، وقد تمنى عبد الله بن رواحة أن يموت شهيدا، أو لم ينهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضا كل من تمنى أن يموت شهيدا يحب أن ينصر الله عز وجل دينه ويحفظ أهله { من قبل أن تلقوه } تشاهدوا شدته { فقد رأيتموه } أى شاهدتم الموت فى أصحابكم، أو شاهدتم الحرب بسيوفها ورماحها من عدوكم وجبنتم وانهزمتم مع أنكم السبب فى تهييجها، ولم تصدقوا فى دعواكم، ولا سيما مجرد تمنى للشهادة، فإنه لا يجوز لأن فيها غلبة الكفرة، بل يسأل الإنسان الظفر على العدو والنجاة لنفع الإسلام بعد، فإن قتل فشهادة رزقها، يصبر لها، فالآية توبيخ لهم على ما ذكر، وعلى الإلحاح، ومقتضى الظاهر فقد لقيتموه، لكن ذكر الرؤية تلويحا بأنهم كمن رآه وها به ولم يدخله، أو للمبالغة فى أنهم شاهدوه { وأنتم تنظرون } حال مؤكدة لرأيتموه، مبينة أن الرؤية بصرية، كقولك رأيته وليس فى عينى علة، أو الرؤية علمية، والنظر بصرى، أو تنظرون محمدا صلى الله عليه وسلم، أو تتأملون كيف الحرب، فالجملة حال مؤسسة، ولما نودى فى هزيمة أحد، أن محمدا قد قتل فشل كثير من المسلمين وهربوا، كما مر وقال المنافقون، بعض لبعض: إن قتل محمد فارجعوا إلى دينكم فرجع بعض، وفى ذلك نزل قوله تعالى { وما محمد إلا رسول } لا يتجاوز الرسالة إلى الألوهية، فتترك العبادة لموته، ولا إلى الحياة أبدا بل يموت كما مات الرسل بقتل أو بغيره، كما قال { قد خلت } مضت بالموت { من قبله الرسل } وذلك قصر إفراد، وله وجه آخر، هو كأنهم اعتقدوا له الرسالة والبعد عن الموت، فقصر على الرسالة، فيكون قد خلت مستأنفا، ولا يلزم من وقوع الجملة بعد النكرة أن تكون نعتا لها، وأيضا يجوز أن تكون نعتا لرسول مؤكدا؛ لأن عدم انتفاء الموت معلوم من حصره على الرسالة، أو قصر قلب إذ توهموا أنه لا يجب البقاء على دينه بعد موته، وهذا القصر منصب على النعت، وهو قد خلت، أما المنافقون فقالوا، لو كان رسولا لم يمت ألبتة، أو لم يمت بالقتل، وكلاهما توهم بعيد وأما ضعفاء المسلمين فضعفت قلوبهم بموته وكأنهم استبعدوا موته فى الوقعة، ولما قيل بموته فت فى عضدهم، والآية فيهم لا فى المنافقين لقوله : " فإن مات.
. إلى..ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " لأن المنافقين فى ضلال، بقوا على النفاق، أو أظهروا الشرك، اللهم إلا أن يقال جازاهم على ظاهر أمرهم، وإلا فهم فى ضلال، انقلبوا على عقبهم أو لم ينقلبوا، لا كما فى قوله تعالى { أفإن مات } بلا قتل { أو قتل } كسائر الناس، والرسل وغيرهم { انقلبتم على أعقابكم } رجعتم إلى الكفر بعد إذ خلفتموه وراء، توهموا أنه نبى لا يموت، وأنه إن مات لم يجب البقاء على دينه، والتقدير: أتضعفون، أو أتؤمنون به فى حياته، وأفإن مات، والأولى أن معنى الانقلاب نقص الدين بزواله كله إلى الشرك، كما وقع من بعض، أو بضعفه، أو بإظهار المنافقين الشرك أو بفعل ما يشبه الكفر من الانكشاف عنه صلى الله عليه وسلم والفشل، ويجوز أن يكون المراد النهى عن الردة لمن لم تقع منه، كمن رأى من أحد قرب فعل شىء، فقال له: أتفعل كذا، وقيل: هى فى أهل الردة، وقيل فيهم وفى إظهار المنافقين الشرك، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص، فمثلا الآية { ومن ينقلب على عقبيه } بالردة { فلن يضر الله شيئا } بكفره، بل ضر نفسه بعذاب النار الدائم لما هزم المسلمون يوم أحد، قال بعض الضعفاء من المؤمنين ليت ابن أبى أخذلنا أمانا من أبى سفيان، وقال المنافقون: لو كان نبيا لم يقتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم { وسيجزى الله الشاكرين } له على نعمة الإسلام، وقيل الشاكرون الثابتون على الإسلام، لأن الثبات عليه ناشىء عن تيقن حقيقته، وذلك شكر، قال على: الصديق أمير الشاكرين، والمراد فى الآية الشاكرون إلى قيام الساعة، وقيل المهاجرون والأنصار كأنس بن النضر عم أنس بن مالك لأنه قال: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حى لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، يعنى ضعفاء المسلمين، وأبرأ مما قال هؤلاء، يعنى المنافقين، وشد بسيفه فقاتل حتى قتل، ونزلت الآية فيه، قال كعب بن مالك: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين بعينيه تزهران من تحت المغفر فناديت بأعلى صوت، يا معشر المسلمين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى أن أسكت، فانحاز إليه ثلاثون وحموه، وتفرق الباقون، وقد ضربه عتبة بن أبى وقاص وابن قمثة، فصرخ صارخ، قتل محمد، ولا يدرى الصارخ، ولعله الشيطان أو إبليس، وأدركه أبى بن خلف الجمحى، وقال: لا نجوت إن نجوت، فقال أصحابه الثلاثون: يا رسول الله، ألا يعطف عليه واحد منا، قال: دعوه، فدنا، فتناول صلى الله عليه وسلم الحرية من يد بعضهم، وهو الحارث بن الصمة، فطعنه فى عنقه وخدشه فهو يخور كالثور، ويقول: قتلنى محمد، فقال له أصحابه: لا بأس، فقال: لو كانت هذه الطعنة فى ربيعة ومضر لأهلكتهم، وقد قال لى: أقتلك، فلو بصق على لقتلنى، وبقى يوما ومات بسرف، وكان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لى رمكة أعلقها كل يوم فر قادرة أقتلك عليها ويقول صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى.
[3.145]
{ وما كان } ما صح أو ثبت { لنفس أن تموت إلا بإذن الله } لملك الموت فى توفيها، فالإذن على حقيقته، وهو أن يؤمر بفعل ما صلبت أو التخلية بينها وبينه أو إلا بمشيئة الله، لا يؤخرها عن أجلها ترك القتال ولا يقدمها عنه القتال إطلاقا للمسبب على السبب، لأن الإذن مسبب عن المشيئة، أو مستعار للمشيئة فى التيسير، وإذا كان أجلها فى القتال لم نجد تأخيرا عنه، فالمقتول مات لأجله، لا كما قالت المعتزلة، إنه مات لغير أجله، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل أو فى وقت القتل قولان فاسدان، وهذا من الأصول التى ينقطع فيها العذر فنكفرهم بقولهم تكفير نفاق لا شرك، وذلك أن الله تعالى لا يخلف الوعد ولا الوعيد، ولا يتجدد علمه فيبدو له ما لم يعلم، حاشاه أن يخفى عنه شىء ولا ينسى ولا يعجز ولا يغلبه شىء عن الأجل الموعود له، وإذا وقع خلاف ما قضى انقلب العلم جهلا واللوح المحفوظ كذبا { كتابا مؤجلا } كتب الله الموت كتابا مؤقتا مبرما، لا يتقدم بقتال كما لا يتأخر بتحرز، وذلك كله تحريض على الجهاد، ووعد بالحياة، وهو مؤكد لمضمون قوله: وما كان لنفس الخ. { ومن يرد ثواب الدنيا } معرضا عن ثواب الآخرة، أو مريدا لثواب الآخرة أيضا، إرادة ضعيفة لم تصدقه أقواله { نؤته منها } من ثوابها إن شئنا، ولا ثواب له فى الآخرة ولا نؤتيه إلا ما قسم له، من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد { ومن يرد ثواب الأخرة } وحده، أو مع ثواب الدنيا، غير آكل بدينه ولا قاصدا إياه { نؤته منها } من ثوابها لاستعداده له لما اشتد الحرب قال صلى الله عليه وسلم:
" من يضرب بهذا السيف حتى ينحنى؟ "
Unknown page