{ وإن كنتم على سفر } فى سفر فعلى، استعارة تبعية لفى، لشبه التمكن فى السفر بالركوب على الدابة للتمكن { ولم تجدوا كاتبا } يكتب لكم دينا عقد فى السفر { فرهن } جمع رهن، بمعنى مرهون { مقبوضة } تستوثقون بها، أو فالمستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فلتعقد رهان، ومعنى مقبوضة أنها على القبض أولا حين عقدها، أو تعقد، وإذا شئتم فبضتموها، وبهذا أقول، وبه قال مالك، ويجبر على تسليمه إلى المرتهن، وإن وصل يده فرده إلى الراهن، ولو على وجه الحفظ والأمانة بطل، وقال الجمهور، إنه لا بد من القبض، وإلا لم يختص به عن الغرماء، ولا يجد قبضه إن لم يقبضه عند العقد، ولنا أنها سميت رهانا قبل القبض، فذكر أنها مقبوضة بعد، وذلك لتوثق السفر بالقبض، وقال مقبوضة ولم يقل تقبضونها، لأنه أظهر فى شمول القبض، قبض المرتهن أو نائبه، والرهن جائز فى الحضر أيضا، خلافا لمجاهد، إذ خصه بالسفر، تبعا للآية. ولم يتعبر الكتابة، لأنه تكون فيما صح، فالرهن صح ولو لم يوجد فيه كاتب مجاراة وجمودا منه على لفظ الآية، وهو خطأ، ولا سيما حيث اشترط لصحته عدم وجود الكاتب، كما جاء فى البخارى ومسلم والترمذى وأبى داود والنسائى وابن ماجه، وأنه صلى الله عليه وسلم رهن ردعه فى المدينة على عشرين صاعا من يهودى، وفى البخارى على ثلاثين صاعا، وخص السفر بالذكر لأنه مظنة فقد الكاتب وآلاته، والشهادة كالكتابة توثقا وإعوازا، فاكتفى عن ذكرها وذكر الكتابة { فإن أمن بعضكم } وهو صاحب الحق { بعضا } وهو من عليه الحق ألا يخونه فلم يرتهن منه { فليؤد الذى اؤتمن } جعل مأمونا، وهو من عليه الحق، ولم يعط رهنا { أمنته } أى الحق الذى عليه، سماه أمانة لعدم التوثق عليه بالرهن، كأنه أمانة { وليتق الله ربه } لا ينكره ولا بعضهن ولا يماطله، بل يجازيه بالوفاء الحسن على جعله أمينا، ولم يكلفه الرهن، وقيل، المعنى، إن أمن بعض الدائنين بعض المدينين بحس الظن فى سفر أو حضر فلم يتوثق منه برهن ولا كتابة ولا شهادة، وجمع بين لفظ الألوهية ولفظ الربوبية لمزيد التأكيد فى التحذير عن أموال الناس { ولا تكتموا الشهدة } إذا دعيتم لأدائها، خطاب للشهود فى أى حق، مبايعة، حضرا وسفرا وغيرها، ويضعف أن يجعل الخطاب لهم، ولمن عليهم الحق، أو لمن عليهم الحق، وشهادة من عليهم الحق إقرارهم على أنفسهم، وفى القرآن تسمية إقرار المرء على نفسه شهادة فى مواضع، وهو حقيقة، وقيل مجاز، وإنما تكون مجازا فى كلام الفقهاء عرفيا، ولا يتبادر هنا أنها بمعنى الإقرار بما عليه { ومن يكتمها فإنه } أى الكاتم { ءاثم قلبه } أى اثم قلبه، أو أن الشأن قلب الكاتم آثم، وقد علمت أن الهاء للكاتم أو للشأن، وإذا كانت للكاتم فآثم خبر أن، وقلبه فاعل آثم، أو فى آثم ضميره، وقلب بدل الضمير، بدل بعض، أو آثم خبر مقدم وقلبه مبتدأ ، والجملة خبر إن، وإذا جعل الهاء للشأن فآثم خبر مقدم وقلبه مبتدأ، والجملة خبر إن، والوصف ومرفوعه الظاهر على الفاعلية ليسا جملة فلا يفسر بهما ضمير الشأن، ولو جعل مبتدأ مستغنيا عن الخبر بمرفوع، وقيل، هو جملة مع مرفوعه المغنى عن خبره، وهو الحق، إلا أنه شهر، لهذا تقدم النفى أو الاستفهام، وأسند الإثم للقلب، لأنه محل الكتم، وإسناد الفعل إلى جارحته أبلغ، كما تقول فى التأكيد، هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، وعرفه قلبى، ولأن القلب إذا أثم تبعه غيره كما فى الحديث، أنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وجاء، أنه إذا أثم العبد حدث فى قلبه نكتة سوداء، وكلما أذنب حدثت نكتة سوداء حتى يسود كله { والله بما تعملون عليم } فيعاقب الشاهد الكاتم بذلك الحق كله، كأنه فى ذمته، كما يعاقب الذى هو فى ذمته.
[2.284]
{ لله ما فى السموت وما فى الأرض } داخل فيهن أو خارج، سمة ملكه دليل على سعة علمه { وإن تبدوا } بقول أو فعل { ما فى أنفسكم } قلوبكم { أو تخفوه } من سوء يفعل بالقلب كالكفر وبغض الإسلام وأهله والحسد والكبر وكتمان الشهادة وسائر المعاصى، أو يعزم على اعتقاده بعد، أو على فعله بالجوارح، والمراد بالإخفاء إبقاؤه غير مظهر، وليس المراد مجرد ما يخطر فى القلب لقوله { يحاسبكم به الله } يخبركم الله بعدده وكيفيته يوم القيامة، وأنكرت المعتزلة والروافض الحساب، ويرد عليهم القرآن والسنة، وتأويلهم تكلف { فيغفر لمن يشآء } المغفرة له، وهو من تاب { ويعذب من يشآء } تعذيبه، وهو المصر، بخلاف ما يخطر بالبال، فإنه لا مغفرة معه ولا تعذيب به، لأنه ضرورى وغير ذنب، لا تكلف عليه، لأنه لا يطاق، لا يكلف الله نفسها إلا وسعها، بل لا عمل له فيه، فكيف يحاسب على ما لم يعمل، وإنما ذلك كإنسان يتكلم وأنت تسمع، بل تكره وتنهاه، وأن تكره الميل إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله عفا عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم "
، وإنما ذلك على كبيرة القلب، أو العزم على المعصية والتصميم عليها، لا على مجرد الخطور، ولا على ميل الطبع، وقد قيل، يكتب الاهتمام سيئة لا كبيرة. وقيل مجرد كبيرة لا نفس ما اهتم به. فإن هذا لأمم قبلنا، يهتم أحدهم بالزنا فيكتب عليه الزنا، وقال بعض الحنفية: لا عقاب عليه ما لم يظهره بالعمل، وأما ما هو كبيرة فى القلب تفعل فيه كما مر، فكفر فى نفسه، إذا فعلها فى نفسه كالفكر فى نفسه، وقدم المغفرة لسعة رحمته وسبقها على غضبه { والله على كل شىء قدير } ودخل فى العموم المحاسبة والعذاب والمغفرة، قال ابن عباس فى الآية، يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، ويعذب من يشاء على الذنب الحقير، لا يسأل عما يفعل.
[2.285-286]
{ ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه } قرآنا أو وحيا غيره فى هذه السورة أو غيرها { والمؤمنون } عطف على الرسول، فيكون المراد بقوله { كل } كل من المؤمنين والرسول، فيدخل الرسول فى الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل، ويدل لذلك قراءة على، وءامن المؤمنون، ولكن شهر أن آمن الرسول آيتان، ولزم على ذلك أنه ثلاث، ويجاب بأن الآيات توقيفية، ويقوى أيضا بأن عطفه على الرسول أعظم له، إذ تبعوه، ذكر فى صدر السورة الإيمان على طريق الخطاب بالكاف، أولئك على هدى من ربهم، وهنا بطريق الغيبة لأن حق الشهادة الباقية على مرور الدهور فى حياة المشهود له وبعد حياته ألا تكون بالخطاب، ولو جعلنا المؤمنون مبتدأ لم يدخل الرسول فى ذلك الإيمان المذكور فى قوله كل { ءامن بالله } أنه لا شريك له، وأنه منزه عن صفات الخلق { وملئكته } بأنهم موجودون، لا يعصون الله، وأنهم وسائط بين الله وخلقه بالكتب وسائر الوحى، كما ذكرهم، بين ذكر الله والكتب والرسل، كما قال { وكتبه } ولم يذكر اليوم الآخر لذكره فى قوله، لكن البر، والثوانى يختصر فيها، وأيضا هو مذكور فى قوله، وإليك المصير { ورسله لا نفرق } قائلين لا نفرق { بين أحد من رسله } فى الإيمان كما آمنت اليهود ببعض، وكفرت ببعض ، وكذا النصارى، كقوله، نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وأما فى الفضل فجائز، تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، وصح إضافة بين إلى أحد بلا عطف على أحد مع أنها لا تضاف إلا لمتعدد، لأن معناه جماعة هنا، فإنه يستعمل لواحد فصاعدا، أو المذكر والمؤنث، أى لا نفرق بين جماعة من رسله، كقوله تعالى، فما منكم من أحد عنه حاجزين، أى من جماعة، وقوله: لستن كأحد من النساء. أى كجماعة، وإنما لم أقل بعموم أحد لأنه نكرة فى سياق النفى، لأنه لم يسمع الجمع فى سائر النكرات فى سياقه، فإنه لم يسمع لا نفرق بين رجل، ولا ما جاء رجل راكبون، وأيضا لم يتسلط النفى على أحد بالذات، بل بتوسط الإضافة مع أنه لم يتسلط أيضا على المضاف بالذات، بل على متعلقه، وعدم التفريق بين الرسل عدم تفريق بين الكتب أيضا فكفى عن ذكره، والعكس يصح أيضا، إلا أنه لم يعكس لأن الرسل أهل للكتب من حيث إنهم الجاءون بها والمدعون لها، ولا يجوز أن يقدر بين أحد وأحد { وقالوا سمعنا } ما قلت، سماع تدبر، ترتب عليه القبول { وأطعنا } امتثلنا، ويقال، الطاعة أخص من السمع، لأنها القبول عن طوع، وينظر فيه بأن الطوع قد يكون إذعانا للقهر لا باختيار { غفرانك } أى اغفر لنا غفرانا، فناب غفرانا عن اغفر، وأضيف لضمير اغفر، أو نسألك غفرانك { ربنا } يتعلق بغفرانك { وإليك المصير } المرجع بالبعث للجزاء، وهذا إقرار بالبعث، أغنى من أن يقول هناك ورسله واليوم الآخر، وأخره إلى هنا ليذكره عقب ما عليه الجزاء من السمع والطاعة، وعقب الغفران الذى يطهر يوم الجزاء والعلم عند الله، ولما نزل: { وإن تبدوا ما فى أنفسكم.
.. } الخ شكا الؤمنون المؤاخذة بالوسوسة وشق عليهم المحاسبة فنزل قوله تعالى:
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ونزل قبها، آمن الرسول. إلى... المصير، وهو آية ليدفعوا الوسوسة بمضمونها والعمل بها. أى إلا ما تسعه قدرته بالغة غايتها، أو دون غايتها، بمعنى أن المكلف به تارة يبلغ غاية الطاقة وتارة دونها، وهو الأكثر ، فإنا نقدر على أكثر من خمس الصلوات، ومن شهر رمضان ومن الحج؛ ومن قدر الزكاة، وهكذا كقوله:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
Unknown page