[2.213]
{ كان الناس أمة وحدة } على دين الله فى عهد آدم عليه السلام، إلى أن قتل قابيل هابيل، فكفر قابيل، وعلم أولاده الكفر، وهذا أولى ما يقال، لأن ذلك فى أول الناس، ويليه أن يقال المراد من بعد الطوفان، ممن فى السفينة ومن لم يكن فيها، ولم يغرق، ولا سلامة، لأنهم تمحضوا للإسلام إلى أن كفر من كفر بعد، وهو حسن، وليسوا قليلا مع من لم يغرق، مه أنه القلة لا تضر، وأزواج حام وسام ويافث مسلمات، وقال ابن عمر: كان الناس متفقين على الكفر حتى بعث الله إبراهيم ولوطا ومن بعدهما ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه مما لا يعلم بالرأى، فلا يقال إن الاتفاق على الكفر فى زمان غير معلوم ولا اتفاق على الإسلام ولا على الكفر بين آدم وإدريس، ولا بين آدم ونوح، ولا يظهر أن بين نوح ومن قبله أكثرهم مؤمنون، بل يظهر أن أكثرهم كفار، فقد يقال بالاتفاق على الكفر، ولم يعتبر قليل الإسلام، ويناسب قول ابن عمر قوله تعالى { فبعث الله النبيين مبشرين } للمؤمنين بالجنة { ومنذرين } للكافرين بالنار، فإن الاتفاق على الكفر أو اتفاق الأكثر مع إلغاء الأقل أدعى إلى بعث الرسل أكثر مما يدعو إليه الاختلاف، ولو جاز أن يراد اختلفوا كفرا وإيمانا بعد الاتفاق على الإيمان، بدليل قوله عز وجل، { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } { وأنزل معهم } أى أرسل معهم متعلق بمحذوف، حال مقدرة، أى مصاحبة لهم أو مقارنة أو مع بمعنى إلى، أو على متعلق بأنزل { الكتب بالحق } ناطقا بالحق، حتى لا يبقى اختلاف، والمراد جنس الكتب، فمن الأنبياء من معه كتاب خص به، ومنهم من معه كتاب من قبله أو فى زمانه، والمراد ما يشمل الصحف، عشر صحف على آدم، وثلاثين على شيث، وخمسين على إدريس، وعشرا على موسى، والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وذلك مائة كتاب وأربعة، والرسل ثلثمائة، وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، { ليحكم } الله، كما قرىء، لتحكم، أو جنس النبى المبعوث، وأفرد لأن الحاكم كل واحد أو أسند الحكم للكتاب على طريق المجاز العقلى { بين الناس } مطلق الناس، لا خصوص الذين كانوا أمة واحدة، لأن الإنزال بعد الاختلاف، فلذلك لم يضمر { فيما اختلفوا فيه } من الحق وغيره، أو فى الكتاب على التوزيع، يختلفون فينزل الكتاب الأول ويقع الاختلاف بعد ذلك إنزال كل كتاب على حدة، والمراد بالإنزال معهم الإنزال مع بعضهم، والمراد المجموع فإن أكثرهم لم ينزل عليه كتاب، بل يتبع كتاب من قبله، أو كتاب من معه، وأل فى الكتاب للجنس، فيشمل كتبا كثيرة، والمذكور من الأنبياء فى القرآن ثمانية وعشرون على اختلاف فى يوسف غافر، أهو غير ابن يعقوب، وعزير وذى القرنين ولقمان وتبع مريم وأم موسى { وما اختلف فيه } أى فى الحق والكتاب، بأن صرفوه أو أولوه بما لا يجوز { إلا الذين أوتوه } أى الكتاب، والأمة أوتيت كتابا كما أوتيه نبيها، لأنه أنزل عليه له ولهم { من بعد ما جآءتهم البينت } الدلائل الشاهدة على حقيقة دين الله من الآيات المعبر عنها بالكتاب، ومن الشواهد العقلية، والمنزل كتاب من حيث إنه جمع حروفا وكلمات وآيات، من حيث إنه علامة وبينات من حيث الوضوح { بغيا } ظلما أو حسدا للحرص على الدنيا، ومنشأ الاختلاف فى الأكثر الحسد، والحسد سبب للظلم، وهو تعليل الاختلاف، والتفريغ والإبدال جائزان فى الاستثناء، ولو باعتبار متعدد، نحو ما جاء إلا زيد راكبا، أى ما جاء أحد راكبا إلا زيد راكبا، وما جاء رجل راكب إلا زيد الراكب، والمانع، وهو الجمهور، يقدر عاملا أى اختلفوا بغيا، وأجازه بعض فى الإبدال، ولا خلاف فى جوازه بالعطف مطلقا { بينهم } نعتا لبغيا { فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } أهو الحق، فمعنى آمنوا شارفوا الإيمان لأن هداية من آمن إلى الإيمان تحصيل الحاصل، أو آمنوا بالكتاب والهداية لما سواه من الحق، أو آمنوا، والهداية الإثبات على الإيمان أو آمنوا، والهداية زيادة ما منحوه من الحق، اختلف كل أمة، وهدى الله من كل واحدة بعضها إلى الحق، أو الذين آمنوا هذه الأمة، والمختلفون غيرهم، أخذ اليهود السبت، والنصارى الأحد، وهدانا الله تعالى للجمعة، واستقبلت النصارى واليهود بيت المقدس، وهدانا الله تعالى للكعبة، ومنهم من يركع ومنهم من يسجد، ومنهم من لا يركع ولا يسجد، ومنهم من يصلى ماشيا، ومنهم من يصلى ويتكلم، وهدانا الله لما علمت من الركوع والسجود وترك الكلام ولا يمشى إلا لضرورة ألجأته إلى المشى، ومنهم من يصوم الليل والنهار، ومن يصوم عن بعض الطعام، وهدانا الله إلى ترك الوصال بعد وقوعه، وترك كل طعام، وقال بعض، إبراهيم يهودى، وبعض نصرانى، وهدانا الله تعالى إلى أنه مسلم، وبعض إلى أن عيسى ولد زنا، وبعض أنه إله، وهدانا الله تعالى إلى أنه رسول الله وروح منه { والله يهدى من يشآء إلى صرط مستقيم } أفعال أو اعتقادات لا عوج فيها، توصل إلى الجنة لا تقصر دونها ولا تميل، وأكدها بتكرير لفظ الجلالة فى موضع الإضمار ومضارع الاستمرار والاسمية.
[2.214]
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } بمجرد الإيمان دون لقاء شد كشدة حفر الخندق ولغزوة الأحزاب والجوع فيها والخوف والبرد، وشدة حرب أحد قبلها، وشدة مفارقة الأهل والمال الوطن عند الهجرة والحاجة، نزلت فى غزوة الخندق، وكأنه أشير لهم بأنها آخر شدة تقصدون وتضطرون إليها، وإن نزلت حين الهجرة فالآية إشارة إلى أنهم يسيصابون، ثم أصيبوا مع شدقا لهجرة بأحد والخندق، وترك أموالهم بمكة وديارهم، وإظهار الهيود العدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسرار قوم النفاق، والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أولهم، وعلى الأول عد ضيق صدره الشريف بمنزلة حسبان دخول الجنة بدون مكاره، بل قبل الهجرة، يأتونه صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج ويقولون ألا تدعو لنا فيقول اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، وقد ينشر الرجل ممن كان قبلكم من رأسه إلى ما بين فخذيه ويمشط بأمشاط الحديد ما رد عظمه، ولا يرده ذلك عن الإيمان كما قال { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } والحال أنه لم يأتكم صفة من قبلكم، أى صفة كصفتهم مما يكره، وقال والله ليتمن هذا الأمر حتى يصبر الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون، وأم بمعنى بل، وهمزة إنكار لياقة الحسبان، وفى لما ترقب وقوع ذلك والتصيير لما فى حالهم منه، وهى كالمثل المضروب فى الغرابة وذكرها بقوله { مستهم البأساء } الفقر الشديد { والضراء } المرض والقتل { وزلزلوا } أزعجوا بالشدائد { حتى يقول الرسول } جنس الرسول، فيشمل رسلا كثيرة، كأنكم فى حال قول الرسل بتقدمكم إليهم أو تأخرهم، ولو اعتبر تأخرهم عن زمان النزول لنصب، وزعم بعض أن المراد اليسع وبعض أشيعاء وبعض شيعاء فالقائلون متى نصر الله أقوام هؤلاء الأنبياء { والذين ءامنوا معه } هم الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، أو الذين آمنوا، أولو التقدم فى أمر الدين { متى نصر الله } استفهام استبطاء ولا شك، لما وعدهم الله من النصر، فأجابهم بطريق الإسعاف فى التعجيل بقوله { ألآ إن نصر الله قريب } فاصبروا يوافكم مأجورين، أى قلنا، أو قال، أو قيل لهم، وعلى الأوجه الثلاثة القائل الله، كقوله تعالى:
وإن الله على نصرهم لقدير
[الحج: 39] لا كما قيل إن هذا من قول الرسول والذين آمنوا وما قبله من قول العامة، ولا من قول الذين آمنوا، ومتى نصر الله من قول الرسول، ولا من قول الذين آمنوا وإلى أن نصر الله قريب من كلام الرسول كما قيل.
[2.215]
{ يسئلونك ماذا ينفقون } أى وعلى من ينفقون، بدليل قوله: فللوالدين الخ، السائل عمرو بن الجموح الأنصارى، وهو شيخ هرم ذو مال عظيم وكان بصيغة الجمع، لأنه قال فى سؤاله ماذا ننفق ولرضى غيره بسؤاله وإعجابهم به، أو سألوا معه كما قال ابن جريج { قل مآ أنفقتم } ما أردتم إنفاقه { من خير } جواب عن نفس ما ينفق فى ضمن الشرط، يتضمن أن الإنفاق يتصور بكل ما أمكن من الحلال، وهو الخير، أو الخير المال، والحلال يعرف من المقام لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصية ومن خارج { فللولدين والأقربين واليتمى والمسكين وابن السبيل } بيان للمنفق عليه تصريحا، لأنه الأهم، وأجاب عن نفس ما ينفق بعرض التصريح، لأن الأولى بهم أن يسألوا عن المنفق عليه، والصحيح أن الآية ليست فى الزكاة كما هو ظاهر، وتجوز الزكاة للوالدين والولد بشرط الفقر والإسلام ، وعدم قرنها بمنفعة ترجع إلى المعطى، وتجوز من زوج لزوجها ومنه لها، كذلك لدين عليها لا تجد خلاصه لا لتتزين بها، وإنما جازت لها منه لأنه ليس عليه قضاء ما عليها من الدين، وقدم الوالدين لعظم شأنهما وحقهما وفعلهما مع الولد، وأنهما أصله، وحتى إنه هما نفسهما، وإنما هو لا قرابة فقط، وذكر الأقرب بعدهما لأنه كبعض الوالدين فهو أولى، إذ لا طاقة على الناس كلهم. وذكر اليتامى لأنهم لا يقوون على الكسب، وهم أحق، وسيما إن كان فيهم أيضا قرابة، وأخر ابن السبيل إذ كان قويا حتى كان ابن السبيل، ولم يذكر السائلين والرقاب لدخولهم فى المساكين، وقيل نزلت فى رجل قال: يا رسول الله لى دينار، قال أنفقه على نفسك، فقال اثنان، فقال: على أهلك، فقال: ثلاثة، فقال: على خادمك، فقال أربعة، فقال: على والديك، فقال: خمسة، فقال: على قرابتك { وما تفعلوا من خير } إنفاق أو غيره كصلاة وصوم { فإن الله به عليم } كناية عن المجازاة، إن كان من حلال وفى إخلاص ولو حلالا عند المنفق لا عند الله مما لا يدرك بالعلم، والجملة جواب الشرط، لأن المعنى تثابوا عليه أو دليل الجواب أى تثابوا عليه لأن الله به عليم، والإثابة على الإنفاق مستمرة بعد فرض الزكاة وقبله، فلا وجه لدعوى نسخه بالزكاة، ولا سيما أن هذا شامل للزكاة وغيرها، وتعميم بعد تخصيص، وليس أمرا بل إخبار فلا يقبل النسخ.
[2.216]
{ كتب عليكم القتال } قتال الكفار { وهو كره لكم } مصدر بمعنى مكروه، أو وصف بمعنى مكروه لكم فى طبع النفس، أو ذو كره أو نفس الكره مبالغة، لصرف المال والتعب والجراح والموت ومفارقة الأهل والولد، قال صلى الله عليه وسلم إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذه بالإبريز فذلك تجاه الله من السيئات، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود، فذلك الذى قد افتتن { وعسى أن تكرهوا شيئا } مما كلفتم به { وهو خير لكم } دنيا كنتم ظفر، وأخرى كثواب وشهادة { وعسى أن تحبوا شيئا } مما نهيتك عنه لليقاته بالطبع { وهو شر لكم } دنيا كجلد ورجم وقطع وحبس، وأخرى كعذاب القبر والبعث والنار والذل والفقر وفرت الأجر، وذلك كالزنا وترك الجهاد، ففى تركه ضعفكم وسبى ذراريكم ونهب أموالكم، وحرمان ثواب الآخرة، وعسى تليبن فى الزجر والجلب، والنفس إذا ارتاضت أحبت مكروهها وكرهت محبوبها، وأمر الله تعالى ونهيه كلها مصلحة للعبد { والله يعلم } كل شىء، فهو عالم بما يصلح لكم { وأنتم لا تعلمون } إلا ما علمكم، فبادروا إلى ما أمرتم به وإلى ترك ما نهيتم عنه، فليس ينهاكم عما هو خير لكم، ولا يأمركم بما هو شر لكم، وكل ما نهيتم عنه شر لكم، وكل ما أمرتم به خير لكم.
Unknown page