ولا يغب عن البال أن جميع النظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قامت على معتقدات دينية، وأن الآلهة مثلت الدور الأول على مسرح العالم في كل زمن، وإذا عدوت الحب، الذي هو دين قوي أيضا ولكنه شخصي موقت، وجدت المعتقدات الدينية وحدها تؤثر في الأخلاق تأثيرا سريعا، ولك أن تتبين حال أمة نومتها أوهامها من خلال فتوح العرب والحروب الصليبية وإسپانية في زمن محاكم التفتيش وإنكلترة في الدور الپيوريتاني وفرنسة في ملحمة سان بارتلمي وحروب الثورة الفرنسية. وللأوهام تأثير دائم يبلغ من الشدة ما يتحول به كل مزاج نفسي تحولا عميقا، ولا مراء في أن الإنسان هو الذي يخلق آلهته، ولكنه إذا ما خلقها استعبدته من فوره، وليست الآلهة وليدة الخوف كما زعم لوكريس، بل هي وليدة الأمل، ولذلك تبقى ذات نفوذ أبدي.
والذي أنعمت الآلهة به على الإنسان حتى الآن - والآلهة وحدها هي التي استطاعت أن تنعم به - هو الحال النفسية التي تنطوي على السعادة، ولا تجد فلسفة استطاعت أن تحقق مثل هذا العمل.
والنتيجة - إن لم تكن الغاية - لكل حضارة ولكل فلسفة ولكل ديانة هي إحداث بعض الأحوال النفسية، ومن هذه الأحوال ما يتضمن السعادة ومنها ما لا يتضمنها، وتتوقف سعادتنا على أحوال خارجية لا ريب، ولكنها ترجع إلى حالتنا الروحية على الخصوص، فمن المحتمل أن كان الشهداء يعتقدون وهم على المواقد أنهم أكثر سعادة من جلاديهم، ومن المحتمل أن كان مرمم الطرق وهو يقضم كسرة الخبز المفروكة بالثوم أشد قناعة بمراحل من صاحب الملايين الذي تساوره الهموم.
ومن دواعي الأسف أن كان تطور الحضارات يحدث في الإنسان الحاضر طائفة من الاحتياجات من غير أن يمن عليه بوسائل قضائها فيوجب بذلك سخطا عاما في النفوس. أجل، إن التطور أصل التقدم ، ولكنه أصل الاشتراكية والفوضى أيضا؛ أي أصل ذينك التعبيرين المرهوبين اللذين ينمان على قنوط جماعات لا تستند إلى معتقد. قابلوا بين الأوربي القلق الهائج الساخط على حظه والشرقي الراضي بمصيره، تروا أنهما يختلفان في حالهما الروحية، والأمة تتحول إذا ما تحول طراز تصورها ومن ثم تفكيرها وسيرها.
وأول ما يجب أن يبحث عنه المجتمع هو إيجاد حال نفسية تجعل الإنسان سعيدا، وإن لم يفعل المجتمع ذلك لم يكتب له طويل بقاء، وقد استندت جميع المجتمعات التي قامت حتى الآن إلى مثل عال قادر على إخضاع النفوس، وهذه المجتمعات قد اضمحلت بعد أن عاد ذلك المثل الأعلى لا يخضعها.
ومن أكبر أغاليط العصر الحاضر أن يعتقد وجود السعادة في الأمور الخارجية وحدها، فالسعادة تقيم بنا، وهي مما نوجده، وهي لا تكون خارجة عنا تقريبا؛ ونحن بعد أن حطمنا مثل الأجيال القديمة العليا نبصر اليوم صعوبة العيش بدونها، ويجب أن نجد سر استبدال غيرها بها خشية الزوال.
والمحسنون الحقيقيون لبني الإنسان، وهم الذين يستحقون أن تقيم لهم الأمم الشاكرة تماثيل فخمة من الذهب، هم أولئك السحرة الأقوياء المبدعون للمثل العليا الذين تنجب بهم البشرية أحيانا ولكن نادرا، هم أولئك الذين يحدثون فوق سيل الظواهر الباطلة، وهي كل ما نقدر على معرفته من الحقائق، وفوق دولاب الدنيا المسنن الصلب الجامد - أوهاما قوية مهدئة مخفية عن الإنسان ما في مصيره من نواح قاتمة، هم أولئك الذين يقيمون للإنسان منازل عامرة بالآمال والأحلام.
ونحن إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية السياسية وحدها وجدنا تأثير المعتقدات الدينية عظيما أيضا، وتقوم قوة المعتقدات التي لا تقاوم على أنها العامل الوحيد الذي يستطيع أن ينعم على الأمة بوحدة مطلقة من المنافع والمشاعر والأفكار حينا من الزمن، وهكذا تقوم الروح الدينية دفعة واحدة مقام تلك المتراكمات البطيئة الموروثة الضرورية لتكوين روح الأمة. أجل، إن الأمة التي يهيمن عليها المعتقد لا تغير مزاجها النفسي، غير أن جميع ملكاتها تتوجه بذلك إلى غرض واحد، تتوجه إلى نصر معتقدها، فتصبح قوتها هائلة لهذا السبب. وفي أدوار الإيمان التي تتحول ذات حين تقوم الأمم بتلك الجهود العجيبة ، تقوم بشيد الدول التي تدهش التاريخ، ومن ذلك أن بعض القبائل العربية التي اتحدت بفعل فكرة محمد قهرت في سنين قليلة أمما كانت لا تعرف منها حتى الأسماء، فأقامت إمبراطورية واسعة.
ودرجة سيطرة المعتقدات على النفوس، لا صفتها، هي التي يجب أن يلتفت إليها، ولا فرق في ذلك بين دعوتك مولك أو أي إله آخر أشد قسوة، ويقوم نفوذ الإله على عدم تسامحه وعلى غلظته في بعض الأحيان، ولا تمن الآلهة الكثيرة التسامح والحلم على عبادها بالقوة، وقديما ساد أتباع محمد الصارم قسما كبيرا من العالم لطويل زمن، ولا يزال هؤلاء الأتباع مرهوبين، وأما أتباع بدهة (بوذا) الهادئ فلم يؤسسوا ما هو باق، فنسيهم التاريخ.
إذن، مثلت الروح الدينية دورا سياسيا مهما في حياة الأمم؛ وذلك لأنها كانت العامل الوحيد القادر، دائما، على التأثير في أخلاقها بسرعة، ومما لا شك فيه أن الآلهة ليست خالدة، غير أن الروح الدينية باقية. والروح الدينية، وإن كانت تغفو لحين، تصحو عند ابتداع ألوهية جديدة، والروح الدينية هي التي استطاعت أن تقف بها فرنسة منذ قرن ظافرة أمام أوربة المدججة بالسلاح، وبذلك قد رأى العالم مرة أخرى ما تقدر عليه الروح الدينية؛ وذلك لأن دينا جديدا كان يقوم آنئذ نافخا من روحه في أمة بأسرها. نعم، إن الآلهة التي برزت كانت من سرعة العطب بحيث لا تدوم، ولكنها كانت ذات سلطان مطلق مدة وجودها.
Unknown page