واستطاعت الهند التي برزت من ظل التاريخ في زمن متأخر أن تقتبس، إذن، بعض العناصر من الحضارات السابقة، غير أن العزلة العميقة التي قيل إن الهند كانت تعيش فيها على الدوام، وأن ما في آثارها من إبداع عجيب لا قرابة ظاهرة بينه وبين جميع الآثار التي ظهرت قبلها، مما أبعد، لطويل زمن، كل افتراض لأي اقتباس أجنبي فيها.
وبجانب ما في آثار الهند الأولى من إبداع لا جدال فيه نرى هذه الآثار تنم أيضا على تفوق في الصنع لم يجاوز في القرون التالية. نعم، لا بد من أن تكون الآثار المذكورة البالغة تلك الدرجة من الكمال قد سبقها تحسس طويل في الظلام، بيد أنك لا تجد أي رسم أو أي أثر منحط ينم على ذلك التحسس.
وما حدث في بعض البقاع النائية الواقعة في شمال شبه جزيرة الهند الغربي من اكتشاف جديد لبقايا من التماثيل والمباني التي تنم على المؤثرات اليونانية الظاهرة حمل العلماء المشتغلين بأمور الهند على القول بأن الهند استعارت فنونها من الأغارقة.
وما كان من تطبيق للمبادئ المعروضة آنفا، ومن البحث العميق في معظم المباني التي لا تزال قائمة في الهند، يسير بنا إلى حل معاكس لذلك معاكسة تامة، فعلى ما كان للهند من صلة عابرة بالحضارة اليونانية نرى أن الهند لم تقتبس أي فن من فنونها، وأن الهند لم تكن قادرة على استعارة ذلك، فالعرقان المتواجهان إذ كانا متباينين كثيرا، وكانت أفكارهما مختلفة اختلافا كبيرا، وكانت عبقريتهما الفنية متنافية تنافيا شديدا، لم يكن أحدهما ليؤثر في الآخر.
ثم إن دراسة الآثار المنثورة في الهند تدل من فورها على عدم وجود أي نسب بين فنونها وبين فنون الأغارقة، وبينما ترى جميع آثارنا الأوربية مشبعة من العناصر المقتبسة من الفن الإغريقي لا تجد في عناصر فنون الهند أي عنصر من ذلك الفن، ويثبت أبسط المباحث أننا تجاه عروق مختلفة إلى الغاية، وأنه لم يوجد من العبقريات ما هو متباين، ولا متنافر، كتباين العبقرية الإغريقية والعبقرية الهندوسية وتنافرهما.
وكلما أوغلنا في دراسة مباني الهند وروح الأمم التي أوجدتها زادت تلك المعرفة جلاء، ونحن لا نعتم أن نرى أن العبقرية الهندوسية ذاتية كثيرا، فلا تتأثر بمؤثر أجنبي بعيد من فكرها. أجل، يمكن هذا المؤثر الأجنبي أن يفرض فرضا، بيد أنه يظل سطحيا موقتا مهما طال أمده، والذي يظهر هو أن بين مزاج مختلف عروق الهند النفسي ومزاج الأمم الأخرى حواجز عالية علو الحواجز الهائلة التي جعلتها الطبيعة بين شبه جزيرة الهند الكبرى وبقاع العالم الأخرى، وقد بلغت العبقرية الهندوسية من الاستقلال ما تحول به في الحال كل أمر تقضي الضرورة عليها بتقليده فتجعله هندوسيا. حتى في فن البناء - حيث يصعب إخفاء ما هو مستعار - تجد ذاتية العبقرية الهندوسية الغريبة وملكتها في التغيير سافرتين، ومن الممكن أن يقلد المهندس المعماري عمودا إغريقيا، ولكن ذلك لا يحول دون تحويله إياه بسرعة إلى عمود يبدو عند أبسط الأبحاث أنه هندوسي، ومن الواقع أن مثل هذه التحويلات يشاهد اليوم في الهند حيث بلغ النفوذ الأوربي الغاية في الزمن الحاضر، وأعطوا أحد متفنني الهندوس أي نموذج أوربي لينقله تجدوه منتحلا لشكله العام، ولكن مع مبالغة في صنع بعض أجزائه، ومع زيادة وتبديل في دقائق زخارفه، وهذا النموذج إذا ما نقل مرة ثانية أو مرة ثالثة جرد من كل مسحة غريبة ليغدو هندوسيا خالصا.
وظاهرة فن البناء الهندوسي الأساسية، وهي ظاهرة تبدو في الآداب القريبة من فن البناء لهذا السبب، هي الإفراط في المبالغة والغلو في الجزئيات والتعقيد الذي يعاكس على خط مستقيم بساطة الفن الإغريقي البادية الباردة، ونطلع بدراسة فنون الهند، على الخصوص، على درجة ما بين آثار العرق الماثلة ومزاجه النفسي من صلة، وعلى تكون أوضح اللغات منها لمن يعرف أن يفسرها، ولو كان الهندوس قد غابوا عن التاريخ غيابا تاما كما غاب الآشوريون لكان في نقوش معابدهم البارزة وفي تماثيلهم ومبانيهم ما فيه الكفاية لاكتشاف ماضيهم، وكانت هذه الآثار تخبرنا على الخصوص أن روح الأغارقة الجلية المنظمة لم تسطع أن تؤثر تأثيرا دائما في خيال الهندوس الفياض العاطل من الترتيب، وكانت هذه الآثار توضح لنا السبب في أن تأثير الأغارقة في الهند لم يبد غير عابر مقتصر على البقعة التي بسط عليها سلطانه بسطا موقتا.
حتى إن الدراسة الأثرية لمباني الهند تجعلنا نوكد، بوثائق دقيقة، ما تنم عليه معارف الهند العامة وروح الهندوس في الحال، وقد أدت تلك الدراسة إلى تحقيقنا الأمر الطريف القائل إن ملوك الهندوس ذوي الصلات بملوك فارس الأشكانية، وقد كانت حضارة فارس متأثرة بالطابع اليوناني، أرادوا إدخال الفن الإغريقي إلى الهند في مرات كثيرة، ولا سيما في القرنين الأولين من الميلاد، فلم يوفقوا لإبقائه في الهند.
ولم يلبث ذلك الفن المستعار الرسمي وغير الملائم لفكر الشعب الذي أدخل إليه أن زال بزوال المؤثرات السياسية التي أوجبت ظهوره، ثم إن العبقرية الهندوسية كانت تكره ذلك الفن المستعار، فلم يكن ذا أثر في فن الهند القومي حتى في الزمن الذي فرض فيه، والحق أنك لا تجد أثرا إغريقيا في المباني الهندوسية المعاصرة لذلك الحين أو التي شيدت بعده كالمعابد المنحوتة تحت الأرض مثلا، وهذا إلى أن من السهل تمييز الأثر الإغريقي فلا يمكن إنكاره، فإذا عدوت المجموع البادي الإبداع على الدوام وجدت في الحال أن بعض الجزئيات الفنية، كعمل النسج، قد صنع بيد متفنن إغريقي.
وكان زوال الفن الإغريقي عن الهند مفاجئا كظهوره فيها، وتثبت هذه المفاجأة أمر فن صار استيراده وفرضه رسميا من غير أن تكون بينه وبين الأمة التي حملت على انتحاله أية قرابة، والفنون لا تمحي على ذلك الوجه أبدا، بل تتحول فيستعير الفن الجديد من الفن الذي ورثه شيئا على الدوام. والفن الإغريقي؛ إذ جيء به إلى الهند بغتة على أثر المغازي، زال من الهند بغتة، وهو لم يتفق له غير تأثير ضعيف ضعف تأثير المباني الأوربية التي يشيدها الإنكليز في الهند منذ قرنين.
Unknown page