ثم ظهرت أمم مختلفة أشد الاختلاف، ومنها أمم متأخرة؛ كالإثيوبيين، وأمم عالية؛ كالأغارقة والفرس، قد اقتبست فنونها من مصر وحدها أو من مصر وآشور، ولننظر إلى ما آلت إليه هذه الفنون بين أيدي تلك الأمم.
ولنرجع البصر، أولا، إلى أحط الأمم المذكورة؛ أي الإثيوبيين.
نعلم في دور متقدم من التاريخ المصري؛ أي في عهد الأسرة الرابعة والعشرين، أن أمم السودان اغتنمت فرصة فوضى مصر وانحطاطها فاستولت على بعض ولاياتها فأقامت مملكة كانت عاصمتها نباتة، ثم مروا محافظة على استقلالها عدة قرون.
وقد بهرت حضارة المغلوبين هذه المملكة، فحاولت هذه المملكة نسخ مباني تلك الحضارة وفنونها، ولكن هذا النقل الذي نحوز نماذج له ليس إلا نقلا غليظا في الغالب، وعلة ذلك أن أولئك الزنوج كانوا من البرابرة المحكوم عليهم بألا يخرجوا من البربرية لانحطاطهم الدماغي، وهم لم يخرجوا من البربرية قط على ما كان من عمل المصريين على تمدينهم في عدة قرون، ولا تجد في التاريخ القديم أو الحديث مثالا على ارتقاء أمة زنجية إلى مستوى الحضارة، وفي كل مرة تقع فيها حضارة راقية بين أيدي العرق الزنجي اتفاقا لا تعتم هذه الحضارة أن تعود إلى أطوار منحطة؛ وذلك كما حدث بإثيوبية في القرون القديمة وبهايتي في أيامنا.
وهنالك عرق آخر كان من البرابرة أيضا، هنالك عرق الأغارقة المقيم بعرض آخر، ولكن من البيض، فاقتبس من مصر وآشور نماذج فنونه الأولى، وفي البداءة اقتصر على نقل ممسوخ أيضا، وهو قد انتهت إليه نتائج فنون تينك الحضارتين العظيمتين بواسطة الفنيقيين الذين كانوا سادة الطرق البحرية بين شواطئ البحر المتوسط وبواسطة أمم آسية الصغرى التي كانت سادة الطرق البرية المؤدية إلى نينوى وبابل.
وكل يعلم درجة تفوق الأغارقة على أساتذتهم، غير أن الاكتشافات الأثرية الحديثة أثبتت أيضا غلظة آثارهم الأولى، ودلت على ضرورة انقضاء زمن حتى إنتاجهم نفيس الآثار التي كتب بها الخلود لهم، وقد مضى الأغارقة نحو سبعة قرون في ذلك الجهد الثقيل كي يبتدعوا فنا خاصا راقيا مستعينين بفن أجنبي، ولكن ما حققوه من المبتكرات في القرن الأخير هو أعظم مما وصلوا إليه في جميع العصور السابقة، والحق أن أطول جهد تبذله الأمة لا يكون في مجاوزة أعلى مراحل الحضارة، بل في مجاوزة مراحلها الدنيا، وتدل أقدم منتجات الفن الإغريقي؛ أي نتائج كنز ميسين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، على عمل ابتدائي وتقليد مشوه لأنصاب الشرق، ثم مضت ستة قرون وما فتئ الفن الإغريقي يكون شرقيا، فتجد بين أپولون في تينيه وأپولون في أورخومين وبين التماثيل المصرية شبها يقضي بالعجب، بيد أن التقدم يسير قدما، فلم ينقض قرن حتى انتهينا إلى فيدياس وتماثيل الپارتنون العجيبة؛ أي إلى فن تخلص من أصوله الشرقية وفاق النماذج التي استوحاها زمنا طويلا.
وقل مثل هذا عن فن البناء ، وإن كان تعيين مراحل تطوره أصعب من ذلك، ونحن نجهل ما يمكن أن تكون قصور أبطال أوميرس حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، ولكن ما يحدثنا عنه هذا الشاعر من الجدر النحاسية والمشارف اللامعة الألوان والحيوانات الذهبية والفضية الحافظة للأبواب يذكرنا في الحال بقصور الآشوريين المكسوة بصفائح برونز وبآجر مطلي بالميناء والتي يحرسها ثيران منحوتة، ومهما يكن من أمر فإن مثال أقدم الأعمدة الدورية الإغريقية التي يبدو أنها ترجع إلى القرن السابع مما نجده في الكرنك وبني حسن، وإن في العمود اليوني عدة أجزاء مقتبسة من آشور، بيد أننا نعلم أيضا أن هذه العناصر الأجنبية المنضدة قليلا في البداءة والممزوجة بعد ذلك، والمتحولة في نهاية الأمر، مما نشأ عن أعمدة جديدة مختلفة عن نماذجها الأولى اختلافا كثيرا.
وتعرض علينا فارس في طرف آخر من العالم القديم انتحالا مماثلا وتطورا مشابها لذلك، غير أن هذا التطور لم يبلغ غايته لما كان من وقف الفتح الأجنبي له بغتة، ولم تقيض لفارس سبعة قرون كما قيض للإغريق، بل تسنى لفارس قرنان فقط لإبداع فن. والعرب وحدهم هم الأمة الوحيدة التي وفقت، حتى الآن، لإبراز فن خاص في مثل ذلك الزمن القصير.
ولم يبدأ تاريخ فارس قط إلا بكورش وخلفائه الذين استطاعوا أن يستولوا على بابل ومصر قبل الميلاد بخمسة قرون؛ أي على مركزي الحضارة اللذين كان مجدهما ينير العالم الشرقي في ذلك الحين، ولم يكن أمر الأغارقة الذين خبئ لهم أن يسيطروا على العالم ذات يوم ليخطر على البال آنئذ، فغدت الإمبراطورية الفارسية مركزا للحضارة إلى الزمن الذي قضي عليها فيه قبل الميلاد بثلاثة قرون من قبل الإسكندر الذي حول بذلك مركز الحضارة ذلك دفعة واحدة.
وإذا لما يكن للفرس، بعد استيلائهم على مصر وبابل، فن خاص فإنهم استعاروا من هذين البلدين نماذج ومتفننين، وإذا لم يدم سلطان الفرس غير قرنين لم يكن عندهم من الوقت ما يحولون به هذه الفنون تحويلا أساسيا، ولكن الفرس حين انهاروا كانوا قد بدأوا بتحويل تلك الفنون، ولنا في أطلال برسپوليس (إصطخر) التي لا تزال ماثلة خبر عن تكوين تلك التحولات. أجل، إننا نجد خلطا هنالك لا ريب، وإن شئت فقل نجد تنضد فنون مصر وآشور الممزوجة ببعض العناصر الإغريقية، غير أن عناصر جديدة تبدو هنالك، يبدو هنالك، على الخصوص، العمود الإصطخري العالي الذي له تيجان ذات رأسين والذي نبصر من تيجانه هذه أن الزمان لو أمهل الفرس لأبدع هذه العرق الرفيع فنا خاصا، ولو لم يبلغ ما بلغه فن الأغارقة من السمو.
Unknown page