وعلى ما في الأمثلة السابقة من اختصار وقلة شرح نراها تكفي لإثبات عمق ما تحدثه الأمم من تحول فيما تقتبسه من عناصر الحضارة، وهذا الاقتباس يبدو عظيما في الغالب لتغير الأسماء فجأة في بعض الأحيان، مع أن هذا الاقتباس ضئيل جدا على الدوام، ولا يلبث العنصر المستعار أن يختلف في نهاية الأمر عن العنصر الذي قام مقامه، وذلك مع القرون وبعمل الأجيال البطيء، وبما يعتوره من إضافات متعاقبة. والتاريخ، إذ يبالي بالظواهر على الخصوص، لا يأبه لتلك التغيرات المتعاقبة أبدا، ونحن، حين يقول لنا التاريخ، مثلا، إن أمة اعتنقت ديانة جديدة ، نتمثل من فورنا الديانة التي نعرفها اليوم، لا المعتقدات التي كانت قد اعتنقت في الحقيقة، ولا بد من استبار غور تلك المطابقات البطيئة لإدراك تكوينها ولمعرفة الفروق الفاصلة بين الألفاظ والحقائق.
وهكذا يتألف تاريخ الحضارات من مطابقات متعاقبة وتحولات صغيرة متراكمة، وإذا بدت هذه التحولات لنا فجائية عظيمة فذلك لأننا، كما في علم الأرض، نغض البصر عن التقلبات المتوسطة لنبصر التقلبات القصوى.
وفي الحقيقة أن الأمة مهما بلغت من الذكاء والمواهب فإن قدرتها على هضم عنصر جديد من عناصر الحضارة تكون في كل وقت محدودة جدا.
وما كانت خليات الدماغ لتهضم في يوم واحد ما يجب لتمامه مرور عدة قرون، وما كانت لتهضم في يوم واحد ما يلائم المشاعر وما يلائم احتياجات مختلف الأمزجة، وهضم كهذا لا يكون إلا بمتراكمات وراثية دائمة بطيئة، ونحن، عندما نبحث في تطور الفنون لدى الأغارقة الذين هم أذكى أمم القرون القديمة، نرى أن هذه الأمة تطلبت قرونا كثيرة لتخرج من نقل نماذج آشور ومصر نقلا غليظا فتصل بالتدريج إلى صنع ما لا تزال البشرية تعجب به من الآثار النفيسة.
وإذا عدوت بعض الأمم العريقة في القدم كالمصريين والكلدانيين وجدت جميع الأمم التي تعاقبت في التاريخ لم تفعل غير هضم عناصر الحضارة التي يتألف منها تراث الماضي محولة هذه العناصر وفق مزاجها النفسي، ولو لم تسطع الأمم أن تستفيد من تطور الحضارات الذي تم سابقا لكان تقدم الحضارات أبطأ مما هو عليه بمراحل، ولوجب أن يبدأ تاريخ مختلف الأمم بما بدئ به من قبل. وانظر إلى الحضارات التي أوجدتها مصر وكلدة منذ سبعة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة تجدها قد أسفرت عن ينبوع موضوعات استقت منه جميع الأمم بالتتابع، وانظر إلى فنون اليونان تجدها قد نشأت عن الفنون التي ظهرت على ضفاف دجلة والنيل، وانظر إلى الطراز اليوناني تجد الطراز الروماني قد صدر عنه، ثم اختلط الطراز الروماني هذا بمؤثرات شرقية فاشتق منه الطراز البزنطي والطراز الرومني والطراز القوطي؛ أي اشتقت منه طرز مختلفة باختلاف عبقرية الأمم التي نشأت فيها، وعلى حسب عمر هذه الأمم، ولكن مع وجود أصل واحد لهذه الطرز.
وأقول مكررا: إن ما بيناه آنفا عن الفنون يطبق على جميع عناصر الحضارة من نظم ولغات ومعتقدات؛ ومن ذلك أن اللغات الأوربية تشتق من لغة أصلية كان يتكلم بها في هضبة آسية الوسطى، ومن ذلك أن فقهنا وليد الفقه الروماني، وأن الفقه الروماني وليد فقه سابق له، ومن ذلك أن الديانة اليهودية صدرت رأسا عن المعتقدات الكلدانية، وأن الديانة اليهودية اختلطت بعد ذلك بمعتقدات آرية فصارت هذه الديانة العظيمة التي تسيطر على أمم الغرب منذ ألفي سنة، ولم تكن علومنا نفسها لتبلغ ما بلغته اليوم لولا عمل القرون البطيء، وتبصر أعاظم مؤسسي علم الفلك الحديث، مثل كوپرنيك وكپلر ونيوتن، مرتبطين في بطليموس الذي كان يرجع إلى كتبه حتى القرن الخامس عشر، وتبصر بطليموس هذا يرتبط في المصريين والكلدانيين من طريق مدرسة الإسكندرية، وهكذا نبصر، على الرغم من الفراغ الهائل الذي نراه في تاريخ الحضارة، تطورا بطيئا في معارفنا نرجع به من خلال العصور والدول إلى فجر تلك الحضارات القديمة التي يحاول العلم الحديث في الوقت الحاضر ربطها بالأزمنة الأولى حين لم يكن للبشرية تاريخ، بيد أن الينبوع إذا كان واحدا فإن ما تحدثه كل أمة بحسب مزاجها النفسي من التحولات في العناصر المستعارة إقبالا وإدبارا مختلف إلى الغاية، ومن هذه التحولات يتألف تاريخ الحضارات.
وفيما تقدم بينا أن العناصر الأساسية التي تتألف منها حضارة أمة ما خاصة بهذه الأمة، وأن هذه العناصر نتيجة مزاجها النفسي وعنوان هذا المزاج، وأنها لا تنتقل من عرق إلى آخر من غير أن تخضع لتحولات عميقة جدا، ومما رأيناه أيضا أن الذي يحجب مدى هذه التحولات هو، من ناحية، الضرورة اللغوية التي تحملنا على تعيين أمور مختلفة بألفاظ واحدة، وهو، من ناحية أخرى، الضرورة التاريخية التي لا تؤدي إلى غير البصر بأقصى وجوه الحضارة، لا إلى وجوهها المتوسطة، ونحن حين ندرس في الفصل الآتي السنن العامة لتطور الفنون يمكننا أن نثبت، بما هو أدق من ذلك، تعاقب التحولات التي تعتور عناصر الحضارة الأساسية عند انتقال هذه العناصر من أمة إلى أخرى.
هوامش
الفصل الثالث
كيف تتحول الفنون
Unknown page