ولكن شرح هذه الأمور يسير بنا إلى بعيد، ولذلك ترانا مضطرين إلى قول كلمة عابرة عن عنصرين أساسيين من عناصر الحضارة؛ أي كلمة خاطفة عن النظم واللغات التي يجاوز البحث في جزئياتهما الفنية حدود هذا الكتاب.
إن ما صح عن المعتقدات يصح عن النظم أيضا، والنظم لا تنتقل من أمة إلى أخرى من غير أن تتحول، وإذ إنني راغب عن الإكثار من الأمثلة فإنني أرجو من القارئ أن يبصر فقط درجة تغير النظم الواحدة التي تفرضها القوة أو الإقناع بحسب العروق مع بقائها مسماة بأسماء واحدة، وسأبين ذلك في فصل آت عند الكلام عن مختلف البلدان الأمريكية.
وفي الحقيقة أن النظم نتيجة ضرورات لا تؤثر فيها عزيمة جيل واحد من الناس، ولكل عرق ولكل وجه من وجوه تطور هذا العرق أحوال عيش ومشاعر وأفكار وآراء ومؤثرات موروثة تستلزم نظما خاصة دون سواها، ولا كبير أهمية لاسم الحكومة في ذلك، ولم يقيض لأمة أن تختار من النظم ما يلوح أنه أصلحها، وإذا وقع من المصادفات النادرة ما يؤدي إلى اختيار الأمة نظما صالحة فإن هذه الأمة لا تستطيع أن تحفظ هذه النظم، وتتألف من الثورات الكثيرة، ومن تغيير الدساتير تغييرا متعاقبا منذ قرن، تجربة يجب أن يستقر بها رأي أولياء الأمور عند ذلك الحد، ثم إنني أرى أن عقل الجماعات المعوج، وفكر بعض المتعصبين الضيق هما اللذان لا يزالان يحتفظان بالرأي القائل إن التغييرات الاجتماعية المهمة تتم بقوة المراسيم، والشأن المفيد الوحيد للنظم هو منحها تأييدا قانونيا للتغييرات التي رضيت بها الطبائع وقبلها الرأي العام في نهاية الأمر، والنظم تتبع تلك التغييرات ولكنها لا تتقدمها، وليس بالنظم ما تتغير الأخلاق ولا أفكار الناس، وليس بالنظم ما تجعل الأمة متدينة أو ملحدة، وليست النظم هي التي تعلم الأمة قيادة نفسها بنفسها بدلا من أن تطالب الدولة بأن تصنع لها قيودا على الدوام.
ولا أسهب في الكلام عن اللغات بأكثر مما أسهبت في النظم، وإنما أقتصر على القول بأن اللغة تتحول بحكم الضرورة عند انتقالها من أمة إلى أخرى، ولو أثبتت كتابة، وهذا ما يجعل الفكر القائل بلغة عامة أمرا عقيما. أجل، إن الغوليين، مع كثرة عددهم، قد انتحلوا اللغة اللاتينية في أقل من قرنين بعد الفتح الروماني، غير أن الغوليين لم يلبثوا أن حولوا هذه اللغة على حسب احتياجاتهم، ووفق منطق روحهم الخاص، ومن هذه التحولات خرجت لغتنا الفرنسية الحاضرة في آخر الأمر.
ولم يكن مختلف العروق ليتكلم بلغة واحدة طويل زمن، وقد تؤدي مصادفات الفتوح أو مصالح الشعب التجارية إلى انتحال هذا الشعب لغة غير لغته الأصلية لا ريب، ولكن هذه اللغة الجديدة تتحول في أجيال قليلة تحولا تاما، ويزيد هذا التحول عمقا كلما كان الذي استعار تلك اللغة مختلفا عن العرق المعير لها.
ومن المحقق، على الدوام، أن نبصر لغات مختلفة في بلدان مشتملة على عروق مختلفة، ولنا بالهند مثال رائع على ذلك، فشبه جزيرة الهند العظمى؛ إذ إنها معمورة بعروق كثيرة مختلفة، ليس من العجيب أن يجد العلماء فيها 240 لغة، عدا احتوائها نحو ثلاثمئة لهجة، وأكثر هذه اللغات انتشارا حديثة جدا ما دام زمن ظهورها لا يزيد على ثلاثمئة سنة، وهذه اللغة، التي تعرف بالهندوستانية، مزيج من الفارسية والعربية اللتين كان يتكلم بها الفاتحون المسلمون، ومن الهندية التي كانت أكثر اللغات انتشارا في البقاع التي استولى عليها أولئك الفاتحون، ولم ينشب الغالبون والمغلوبون في الهند أن نسوا لغاتهم الأصلية ليستعملوا هذه اللغة الحديثة الملائمة لاحتياجات العرق الجديد الذي هو نتيجة توالد أمم مختلفة متواجهة.
ولا أزيد في الإسهاب، بل أكتفي بالدلالة على الأفكار الأساسية، ولو استطعت أن ألتزم جانب التفصيل الضروري لذهبت بعيدا فقلت إن الأمم إذا ما اختلفت دلت الكلمات المتقابلة عندها على طرز تفكير وشعور تبلغ من التباعد ما تبدو لغاتها معه عاطلة من المترادفات فتستحيل الترجمة من إحداها إلى الأخرى. وظاهرة مثل هذه مما يدرك أمره عند النظر إلى أن الكلمة الواحدة في البلد الواحد ولدى العرق الواحد تدل بعد بضعة قرون على أفكار مختلفة أشد الاختلاف عما كان لها قبل ذلك.
والكلمات القديمة وحدها هي التي تدل على أفكار الناس فيما مضى، والكلمات القديمة، بعد أن كانت في الأصل إشارات لأشياء حقيقية، لم يعتم معناها أن تشوه بفعل تبدل الأفكار والطبائع والعادات. نعم، يداوم الناس على البرهنة بتلك الإشارات المستعملة التي يصعب تغييرها، ولكنك لا تجد أية صلة بين مدلولها الماضي ومدلولها الحاضر، وأنت، إذا ما رجعت البصر إلى أمم بعيدة منا كل البعد منتسبة إلى حضارات لا شبه بينها وبين حضارتنا، وجدت الترجمة من لغاتها لا تسفر عن سوى ألفاظ مجردة من المعنى الحقيقي، وتثير هذه الألفاظ في نفوسنا، إذن، أفكارا لا صلة بينها وبين الأفكار التي كانت تثيرها في الماضي، وهذه الظاهرة تستوقف النظر، ولا سيما عند البحث في لغات الهند، وفي الهند؛ حيث الأفكار مذبذبة، وحيث المنطق لا يشابه منطقنا مطلقا، لم يكن للألفاظ ذلك المعنى الدقيق المقرر الذي اتفق له في أوربة بفعل القرون وبفعل مزاجنا النفسي في نهاية الأمر. وفي الهند تجد كتبا كالويدا قد تعذرت ترجمتها وذهبت كل محاولة في هذا السبيل أدراج الرياح،
2
ومن الصعب جدا أن ننفذ في فكر من نعيش معهم من الأفراد الذين نفترق عنهم سنا وجنسا وتربية، ومن المتعذر على أي عالم أن ينفذ في أفكار العروق التي اشتدت عليها وطأة أعفار العصور، ولا ينفع كل علم مكتسب لغير إثبات عقم مثل هذه المحاولات.
Unknown page