ويتطلب بناء الروح القومية عدة قرون على العموم، وإذا ما رسخت الروح القومية ظلت في مأمن من كل مس طويل زمن، وقد حبط عمل الثورة الفرنسية الكبرى في تغيير روح فرنسة على ما تذرعت به هذه الثورة من أقسى الوسائل، فلم تعتم مؤثرات الماضي أن بدت ثانية فأدت إلى أكثر من رجعة بعد دور الانقلابات.
وحوادث مهمة كهذه تترك بعض الأثر في روح الأمة لا ريب، غير أن التحولات لا تكون عميقة إلا بفعل تقلبات البيئة.
وقد ألمعت إلى سبب ذلك في هذا الكتاب بأن ذكرت وجود عناصر ثانوية بجانب جهاز روح العرق الأساسي توجب ظهور شخصيات جديدة، ولنا في الثورة الفرنسية وفي الحرب الأوربية أمثلة كثيرة على ذلك.
وفي هذه الحرب ظهر تحول الشخصيات ذلك واضحا إلى الغاية، وبدا ذلك التحول في فرنسة بغتة؛ ففيها صرت تبصر أقسى الثوريين قد غدا من ذوي الحمية الوطنية، وفيها صرت تبصر أشد الناس وجلا قد غدا من ذوي الإقدام، وفيها صرت تبصر الأحزاب المتناحرة قد جمع بينها فكر عام.
وما كان التحول أقل عمقا من ذلك في إنكلترة، وإن كان أكثر تؤدة؛ فقد عدلت إنكلترة التي هي أشد تمسكا بالتقاليد عن كل نفرة من الحياة العسكرية، ونسيت منازعها إلى الحرية متخذة روحا جديدة ملائمة لمقتضيات الساعة، والحق أن ملاءمة أحوال العيش المفاجئة لا تكون إلا وئيدة في أمة استقرت روحها بعوامل موروثة كررت زمنا طويلا على معنى واحد.
أجل، يمنح ذلك الثبات في الروح القومية الأمة قوة عظيمة، ولكنه قد يصبح شؤما عليها إذا ما استقر كثيرا فيها، فالأمم التي لا تقدر على ملاءمة مقتضيات العيش الجديدة تنحط لعدم المرونة.
ومن الطبيعي أن تتضمن الملاءمة اكتساب أفكار جديدة ومشاعر جديدة، ومن ثم طبائع جديدة، والتحولات التي تنشأ على هذا الوجه لا تدوم إلا إذا ثبتت ما دامت وليدة تقلبات البيئة، وكل يعلم درجة انزواء الشخصيات التي صدرت عن تلك الرواية الثورية الفاجعة، فلما هدأت تلك الزوبعة لم يلبث أولئك الذين نعتتهم الأسطورة بالجبابرة؛ لما اقترفوا من أقسى أعمال القتل؛ نصرا لغرضهم، أن عادوا من أبناء الطبقة الوسطى المسالمين، والتجار الهادئين، والموظفين الوادعين، وبدوا أول من دهش من التحول الذي طرأ على روحهم.
ومما لا مراء فيه أن تحول الشخصيات الذي أدت إليه الحرب الأوربية سيكون ذا نتائج أكثر دواما من ذلك لمس جميع المصالح في الحاضر وتهديدها في المستقبل، وسيكون التهديد القادم هذا عاملا قويا في تحويل روح كثير من الأجيال.
وسيظل التهديد قائما زمنا طويلا لا ريب، وستكرر الحروب بين الأمم ذات الروح والأماني والاحتياجات المتباينة حتما، وستعقب المنافسات الاقتصادية المنازعات الحربية في المستقبل مناوبة.
وقد بدت ضرورات جديدة فتجب ملاءمتها؛ خشية الزوال.
Unknown page