Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
هنا تدرج التصوف من زهد بسيط لا قواعد له ولا أصول غير قواعد الدين وأصوله، إلى حياة روحية منظمة مؤسسة على قواعد مرسومة، وعلى أساليب من الرياضات والمجاهدات مقررة، وعلى دراسة لأحوال النفس لمعرفة أمراضها وعللها، ثم معالجة هذه الأمراض والعلل.
ومجمل القول في هذا الدور الانتقالي من أدوار التصوف، أنه كان الاتصاف بالأخلاق الدينية وإدراك معاني العبادات ومغازيه الباطنية البعيدة. سئل الجنيد عن التصوف فقال: «الخروج عن كل خلق ردي، والدخول في كل خلق سني.» وقال ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (شرح منازل السائرين للهروي): «واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق.»
ولما كانت الإرادة مصدر الأفعال الاختيارية كلها، جعل الصوفية علمهم مبنيا عليها؛ لأنها حركة القلب، والنظر في تفصيل أحكام الإرادة هو النظر في حركات القلوب كالرغبة والرهبة والخوف والرضا والحب والكره والقناعة والتوكل والشكر والصبر والحياء وما إلى ذلك من الأحوال.
يقول ابن القيم الجوزية في شرح مدارج السالكين في هذا المعنى: «إن هذا العلم (أي التصوف) مبني على الإرادة، فهي أساسه ومجمع بنائه، وهو يشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب؛ ولهذا سمي علم الباطن. كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سمي علم الظاهر.»
وينتهي هذا الدور الانتقالي بانتهاء القرن الثاني تقريبا، وأهم مميزاته: الزهد المنظم، والرضا والتوكل، ومن أشهر من ظهر فيه من الصوفية: إبراهيم بن أدهم المتوفى سنة 161، ومعروف الكرخي المتوفى سنة 200، ورابعة العدوية البصرية المتوفاة سنة 185، وداود بن نصير المتوفى سنة 165، والفضيل بن عياض المتوفى سنة 189. •••
دخل التصوف بعد ذلك في دور جديد هو دور المواجد والكشف والأذواق، ويقع هذا الدور في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان العصر الذهبي للتصوف الإسلامي في أرقى وأصفى مراتبه. كان الدور السالف دور انتقال كما قلنا، اعتبر فيه التصوف طريقا من طرق العبادة يتناول أحكام الدين من ناحية معانيها الباطنية وآثارها في القلوب، فكان بذلك مقابلا لعلم الفقه الذي يتناول ظاهر العبادات، فأصبح في هذا الدور طريقا لتصفية النفس وتحصيل المعرفة في مقابل طريقة أهل النظر من المتكلمين. لم يقف الأمر عند القيام بالرياضات والمجاهدات بقصد تحصيل الأحوال والمقامات، بل اتخذ الصوفية من طريقهم وسيلة للكشف عن معاني الغيب وأداة لتحصيل المعرفة الذوقية التي لا وسيلة لغيرهم إلى إدراكها؛ ولذلك أطلقوا على علمهم أسماء جديدة تشير إلى هذا المعنى، فسموه علم الأسرار وعلم المكاشفات وعلم الأحوال والمقامات وعلم الأذواق وما شاكل ذلك.
وقد فرق الصوفية - وهي تفرقة انتفع بها الغزالي واستغلها إلى أقصى حد - بين نوعين من العلم: العلم الذي يكتسب عن طريق العقل وإعمال الفكر، وهذا يخصونه باسم «العلم» فإذا أطلق اللفظ من غير تقييد انصرف إليه، والآخر العلم الذي يدرك بطريق أشبه بالإلهام ويلقى في القلب إلقاء ولا يدرى كنهه ولا مصدره ولا يمكن تفسيره أو تعليله، وهو العلم الذوقي أو المعرفة
Gnosis . كما فرقوا بين العالم والعارف، وأطلقوا اسم العارف على الصوفي دون غيره.
من هنا أصبحت المعرفة غاية وهدفا يسعى إليه الصوفي، وأصبحت الطريقة الصوفية بما فيها من مجاهدة ورياضة نفس، وسيلة - لا غاية في نفسها - لتحصيل المعرفة بالحقائق وتوقيف صاحبها على الأسرار الغيبية، كما أصبحت أكبر سعادة أو غبطة ينالها الصوفي.
وإذا كانت المعرفة سبيل الوصول إلى اليقين، فأي سعادة لطالب اليقين وطالب الحقيقة أعظم منها؟ نجد هذا التحول ظاهرا في التعريفات التي وضعها صوفية القرن الثالث للتصوف. فنجد معروف الكرخي يصف التصوف بأنه: «إدراك الحقائق واليأس مما في أيدي الناس.» يريد بذلك إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف، والزهد فيما في أيدي الناس من متاع الدنيا.
Unknown page