Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
وقد ظهر في الكوفة جماعة عرفوا بالروحانيين، منهم حبان الحريري وكليب، اللذان توفيا قبل المائتين، وعلى يديهما ظهر تحول كبير في مدرسة الكوفة باتجاههما اتجاها إباحيا. لم يعتدا بظاهر الشرع؛ أي بأحكام الشرع التي تجري على الجوارح، واعتبرا الزهد شيئا منافيا لإشباع الحياة الروحية، ومن هنا جاءت الإباحية، غير أنها لم تكن إباحية مطلقة تمنح لكل إنسان، بل للواصلين إلى نهاية السبق في طريق العبادة، ومن المأثور من أقوال هؤلاء الروحانيين قولهم: «إن العباد يصلون بعبادتهم إلى منزلة هي غاية السبق من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه. فإذا بلغت تلك الغاية، تعطى ما تشتهي.»
2
وقد شاع في مذهب أهل الكوفة التجسيم، فأجاز أبو شعيب الكلال المتوفى سنة 170 على الله الفرح والحزن والتعب والراحة والملالة والرؤية ونحو ذلك.
3
ومن «الكوفة» انتشر التصوف إلى ما وراء العراق، وبخاصة في إيران؛ حيث كانت المزدكية منتشرة قبل الإسلام، وفي إيران ظهرت مدارس صوفية متعددة مختلفة في اتجاهاتها النظرية والعملية سنعرض لها بالتفصيل فيما بعد.
ولما أصبحت «بغداد» مركز الإسلام السياسي والثقافي، وضعف شأن التصوف في البصرة، وورثت بغداد التصوف البصري والمدني معا، وضعت له أسسا وقواعد؛ ولذا نجد في تصوف المدرسة البغدادية زهد أهل البصرة الذي كان متأثرا بنظريات المعتزلة الكلامية، وزهد أهل المدينة الذي كان متأثرا بالحديث، ومن أبرز من ظهر فيهم الأثر الأول الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243، في حين ظهر الأثر الثاني في أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241. •••
وفي أخريات القرن الثاني الهجري تحول الزهد إلى التصوف وولد في الإسلام علم جديد في مقابل علم الفقه، أو بعبارة أدق: انقسم علم الشريعة إلى قسمين؛ علم الفقه الذي يبحث في الأحكام التي تجري على الجوارح، وعلم التصوف الذي يبحث في باطن الشريعة وتفهم أسرارها، والنظر في العبادات وأثرها في النفوس وما يترتب عليها من أحوال نفسية وفوائد روحية، وكان بدء هذا التحول في البصرة التي كانت مركزا للزهاد والمحاربين لاستعمال الطقوس الدينية والتقاليد، معتبرين الزهد أمرا باطنيا وصلة روحية صرفة بينهم وبين الله، مخالفين في ذلك أهل الشام الذين كانوا يعظمون من شأن هذه الطقوس والتقاليد. يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»:
4
أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد (المتوفى سنة 177) من أصحاب الحسن (البصري)، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار؛ ولهذا كان يقال: «فقه كوفي وعبادة بصرية.» وكأنما حدث رد فعل للحركة التي قام بها أهل الكوفة في البحث في الفقه والاجتهاد في مسائل القضاء والإمارة، فأراد أهل البصرة أن يتداركوا ما عدوه نقصا في مسلك الكوفيين فاعتنوا هم بأمور العبادات والأحوال، وفي هذا يقول ابن تيمية في نفس رسالته:
5 «إن الأمور الصوفية التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، فافترق الناس في أمر هؤلاء الذين زادوا في أحوال الزهد والورع والعبادة على ما عرف من حال الصحابة، والحقيقة أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون، كما أن جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدون في مسائل القضاء والإمارة.»
Unknown page