وقصدا إلى الدكتور، وراح يقص عليه قصته جميعا، لم يخف عنه حتى ما عرفه عن أبيه من طغيان وظلم. والدكتور يسمع في هدوء لا يقاطعه، وإنما يلاحقه، وسامي يحس أن الرجل يشعر بكل خلجة في صوته أو في صدره، حتى إذا انتهى من الحديث جاءه صوت الدكتور، وكأنما يتصاعد إليه من أعماق بئر بعيد الغور. - بارك الله فيك يا بني، ووفقك في كل ما تسعى إليه.
وظلت رشيدة فاغرة فاها في دهشة بالغة، وكأنما لم تكن تتصور أن هذا الفتى الحدث يستطيع أن يدرك معاني الخير والجبروت بكل هذا الصدق والإيمان والوضوح. •••
في اليوم التالي كانت غرفة سامي تغص بأبيه وأمه ومأمون وفواز جميعا لا يصدقون عيونهم أنهم يرون سامي، ثم يقول الأب: منذ الغد أبحث لك عن شقة مفروشة تليق بك.
ويقول سامي: إن هذه الغرفة هي التي تليق بي.
ويقول الأب في غضب: ماذا تقول؟ أتريد أن تشهر بي بين الناس ويقولون إنه تارك ابنه في حجرة فوق السطح؟ - أي ناس يا أبي، إننا هنا في القاهرة، ولا أحد هنا يعرف الآخر، وهذه الحجرة تكفيني، بل وتكفي معي مأمون أيضا وفواز. - ماذا؟ - ليس من المعقول أن يتعلم كل منا في ناحية ... القاهرة تستطيع أن تعلمني وتعلم مأمون، وقد علمت العرب أجمعين.
ويلتفت زين إلى الأم: أيعجبك هذا الكلام؟
وتقول الأم في فخر: إنه خير كلام، إنه يريد أن يتعلم، ولا يريد المظاهر الفارغة، ولا يحتاج إليها. - فإن جئنا لزيارته. - نزوره ونبيت في الفندق الذي سنبيت فيه الليلة.
وأحس الأب بالخذلان، ثم التفت إلى سامي: ألا تأتي معنا حتى تنتهي الإجازة؟ - بل أنا الذي سأبقي مأمون معي وفواز، حتى تنتهي الإجازة، ثم أدخل أنا إلى الجامعة. - وفيم بقاؤكم لبداية الدراسة؟ - لأقدم لمأمون في مدرسة السعيدية القريبة من الجامعة، ونعد أنفسنا للقاهرة ونتعرف عليها ... فهي مقامنا الجديد.
وأطرق الأب قليلا، ثم قال: خذ.
وأخرج حافظته، وراح يعد، ثم أعطى سامي مبلغا من المال. ونظر سامي إلى المال، وخيل إليه أنه يقطر دما، وأوشك أن يرفض، ولكنه في لحظة رأى نورا يحيط بالمال، وأزمع أمرا ومد يده، وتناول المبلغ الذي لم يتبين عدده، وقال الأب: هذا المبلغ مائتا جنيه، وسوف أرسل لك كل شهر مثل هذا المبلغ لك ولأخيك، وأوشك سامي أن يقول هذا كثير، ثم ما لبث أن قمع الجملة، فلم تخرج، وإنما نطق بدلا منها كلمة واحدة. - شكرا.
Unknown page