Tarikh Umma Casr Rashidun
عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
Genres
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما، فأماتا ما أحيا القرآن، وأحييا ما أمات القرآن، ثم اختانا في حكمهما، فكلاهما لا يرشد ولا يسدد، فبريء الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للسير.»
ثم كتب إلى أهل البصرة يدعوهم إلى نصرته، فجاءه منهم جمع كبير، ولم يشخص إليه ابن عباس هذه المرة، بل اكتفى بأن أرسل الجند، وأراد الإمام عليه السلام أن يسير إلى الشام، ولكن جاء خبر أقض مضجعه، وهو أن الخوارج تجمعوا بجموع كبيرة في النهروان، فكتب إليهم ينبئهم بأن الحكمين انتهيا إلى خلاف، وأنه يدعوهم لنصرته في حرب أهل الشام، فأبوا عليه وأغلظوا في القول لرسوله، فصبر عليهم وقال: لعلهم يثوبون إلى الرشاد والهدى والصواب، ولكن الأخبار وصلت إليه بأنهم أخذوا يعيثون في الأرض الفساد، ويقتلون الأبرياء والصالحين والنساء، فعزم على قتالهم، وسار نحو النهروان.
وهكذا انتهى حرب صفين على هذا النحو المخزي الفاجع، الذي فرق كلمة المسلمين وشتت شمل العرب. (3) حرب النهروان
لما وصل الإمام عليه السلام إلى النهروان - وهي كورة واسعة واقعة بين محل واسط وبغداد - كتب إليهم يوصيهم بالدخول في طاعته، وأن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت الذي قتلوه شهيدا بريئا، فأجابوه بأننا كلنا قتلته، فأخذ عليه السلام يردد رسله إليهم يعظونهم تارة ويخوفونهم تارة أخرى، فترك قوم من الخوارج إخوانهم ورجعوا إلى الكوفة، كما التحق نفر منهم بجيش الإمام، ولكن الكثرة الكاثرة منهم ظلت على عنادها بقيادة عبد الله بن وهب الراسبي ذي الثفنات، وكان عددها نحوا من ثلاثة آلاف مقاتل، فقرر عليه السلام ألا يقاتلهم حتى يبدءوه بالقتال، ورأى الخوارج أن الإمام مصر على قتالهم، فاستبسلوا وصاح صائحهم «هل من رائح إلى الجنة؟» فتبعوه وصاحوا: «نحن الرواح إلى الجنة .» وشدوا شدة واحدة على جيش الإمام فاضطر إلى أن يقاتلهم، ولكنهم كانوا أعنف من جند الإمام في حملتهم، فاستطاعوا أن يفرقوا الجيش العلوي قسمين، ولكن الجيش ما لبث أن حمل عليهم حملة قوية حتى قضى على الخوارج كلهم وفيهم رئيسهم ذو الثفنات.
وهكذا قضى الإمام على جميع الخوارج إلا من اندس منهم إلى الكوفة أو القرى المجاورة.
وقد ظن الإمام أن الحرب قد انتهت، وأن الأمور قد استقامت، وأن العراق قد خضع فلم يبق إلا الشام، فليجهز له من يقضي على معاوية وأصحابه، فأخذ يدعوهم إلى أن يهيئوا أنفسهم للذهاب إلى الشام، ولكنه فوجئ بأمر لم يحسب له حسبانا، وهو أن جموع قبائل الخوارج الذين قتلوا يوم النهروان قد تجمعت للانتقام من قتلة أبنائهم وإخوانهم وأصدقائهم، وأن كثيرا من جنوده يتسللون إلى عشائرهم وقبائلهم ومدنهم رافضين مساعدته والقتال معه حتى اضطر إلى أن يعود إلى الكوفة ويدعو الناس من جديد إلى قتال أهل الشام ويخطبهم، فلا تتجاوز خطبه آذانهم، فلا يتحركون إلا حركات اصطناعية وهم يؤثرون الهدوء والسكينة على الحروب والأسفار، حتى ضاق بهم يوما فخطبهم بقوله: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة قلوبهم وأهواؤهم، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا دعوتكم إلى الجهاد قلتم: كيت وكيت، وذيت وذيت، أعاليل بأباطيل، وسألتموني التأخير فعل ذي الدين المطول، لا يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد والعزم واستشعار الصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع في نصركم، ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأبدلني بكم من هو خير لي منكم، أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة يتخذها الظالم فيكم سنة، فيفرق جماعتكم ويبكي عيونكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وتتمنون عن قليل أنكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حق ما أقول، ولا يبعد الله إلا من ظلم.
ولكن أقواله وتهديداته لم تفدهم شيئا، وقد قاسى منهم ويلات شدادا وضاق بهم ذرعا، وزاد الأمر سوءا ظهور من كان قد اختفى من الخوارج وإعلانهم دعوتهم ضده عليه السلام جهارا، وتكاثرهم يوما بعد يوم، وأخذوا يكيدون له شخصيا ويحاولون الفتك به عليه السلام، ويخذلون الناس عنه ويبثون لهم أن «عليا» ظالم لا يختلف عن «عثمان»، حتى جاءه أحدهم - وهو الخريت بن راشد السلمي - فقال له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك، فقال له الإمام عليه السلام: ثكلتك أمك، إذا تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تغر إلا بنفسك، ولم تفعل ذلك؟ قال: لأنك حكمت الناس في كتاب الله، وضعفت عن الحق حين جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راز، وعليهم ناقم، فلم يغضب الإمام عليه السلام من قوله ولم يبطش به، وإنما دعاه إلى المناظرة والمناقشة، فقال له: أمهلني إلى غد، وهرب الرجل إلى قومه - وكان فيهم سيدا مطاعا - فقال لهم ما سمعه من الإمام، وما أجابه به، ثم خرج بهم وأخذ يجمع الجموع لقتال الإمام، فبعث إليهم الإمام بجيش لجب فتك بهم، فتزايدت الإحن والترات، وعظم الكرب، وهرب نفر من قادة العراق إلى الشام مفضلين هدوءه وأموال معاوية وجاهه.
أما معاوية فإنه بعد أن وطد الأمر في الشام عزم على الاستيلاء على مصر، وكان فيها أمير لعلي هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فزور معاوية على لسان قيس كتابا بعث به إلى الكوفة ، وفيه يعلن انحرافه عن علي وغضبه لعثمان وانضمامه إلى معاوية، فلما وصل الكتاب إلى الكوفة قال علي عليه السلام للناس: إنها كذبة، وإن الكتاب مدسوس على قيس. ولكن أصحاب الإمام ألحوا عليه في وجوب عزل قيس، فلم يجبهم إلى ذلك، بل كتب إليه يخبره بالخبر ويطلب إليه أن يقاتل كل من لم يبايع عليا في مصر، فرد عليه قيس بأنه لا يفضل سلوك طريق القوة، وأنه يرجو الإمام أن يخلي بينه وبين إقليمه، فلم يشك أهل الكوفة في أن قيسا قد أضمر شيئا، وألحوا على الإمام في وجوب عزله، فعزله، وولى محمد بن أبي بكر الصديق محله.
وكان الفرق بين الواليين شاسعا، فابن أبي بكر شاب حدث لم يجرب الأمور، وقيس رجل كبير عارك الدهر وعركه، ثم إن محمد بن أبي بكر كان ممن شاركوا في التسور على عثمان، وفي مصر جماعة من العثمانية، ولما وصل محمد إلى مصر رحل قيس إلى المدينة، واضطرب أمر مصر، فجهز معاوية جيشا بقيادة عمرو بن العاص واستولى عليها بعد أن قتل محمد بن أبي بكر، فلما علم الإمام عليه السلام بذلك غم غما شديدا.
Unknown page