وقد ظهر هذا الفن عند المسلمين مع ظهور علم الحديث، ولم يظهر عند علماء أوروبا إلا في القرن الخامس عشر الميلادي بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية. ولم تكن بداية هذا الفن في هذا الوقت مبنية على أسس علمية صحيحة، بل كان مجرد محاولات لتصحيح بعض النسخ وطبعها، إلى أواسط القرن التاسع عشر، حين وضعوا أصولًا علمية لنقد النصوص ونشر الكتب القديمة (١).
وإذا كان هذا الفن قد ظهر مبكرًا عند علماء المسلمين، وبالخصوص عند المحدثين وذلك عند شيوع (الوجادة) في القرن الرابع الهجري، فإن القاضي عياضًا كان من المتقدمين الأوائل الذين وضعوا لهذا الفن أسسه - بعد الرامهرمزي أبي محمَّد الحسن بن عبد الرحمن المتوفى سنة ٣٦٠ هـ، والحاكم النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٥ هـ، والخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣ هـ - بدءًا بالمقابلة إلى إصلاح الخطأ، إلى علاج السقط، إلى علاج الزيادة، إلى علاج التشابه بين النسخ إلى غير ذلك - وإذا كان كتابه "الإلماع" قد تحدث عن الجانب النظري لهذا الفن، فإن كتاب "التنبيهات" يعتبر المجال التطبيقي الذي طبق فيه هذه الدروس النظرية.
ونشير إلى بعض بصماته التي تركها شاهدة عليه في تأصيل هذا الفن كما تحدث عنها.
أولًا: المقابلة بين النسخ:
هذه العملية هي الأساس في عمل التحقيق، وهي تستهدف جمع المخطوطات للكتاب الواحد والمقابلة بينها للخروج بنص مستقيم. وقد كانت معروفة عند المسلمين بهذا المصطلح، فهذا القاضي عياض يخصص للمقابلة بابًا من كتابه: "الإلماع" (٢). وبناء على هذا يمكن اعتبار عياض من الأوائل الذين أسهموا في وضع منهج التحقيق. فهو يقول: وأما مقابلة
_________
(١) مناهج تحقيق التراث، ص: ١٥.
(٢) باب في التقييد بالكتاب والمقابلة والشكل والنقل والضبط. "الإلماع": ص: ١٤٦.
مقدمة / 58