التَّنْبيهَاتُ المُسْتَنْبَطةُ
على
الكُتُبِ المُدَوَّنَةِ والمُخْتَلَطَةِ
للإمَام الحَافظِ
أبي الفَضل عَياض بن موُسى اليَحصبي
المُجَلَّدُ الأوّل
قسمُ الدّرَاسَة
تحقيق
الدكتور محمد الوثيق - الدكتور عبد النعيم حميتي
دار ابن حزم
مقدمة / 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
ISBN ٩٧٨ - ٦١٤ - ٤١٦ - ١٤٨ - ٧
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار
تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم
بيروت - لبنان - ص. ب: ٦٣٦٦/ ١٤
هاتف وفاكس: ٧٠١٩٧٤ - ٣٠٠٢٢٧ (٠٠٩٦١١)
البريد الإلكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: www.daribnhazm.com
مقدمة / 2
التَّنْبيهَاتُ المُسْتَنْبَطةُ
على
الكُتُبِ المُدَوَّنَةِ والمُخْتَلَطَةِ
قسمُ الدّرَاسَة
(١)
مقدمة / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدّمَة
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين، المبعوث لكافة الخلق أجمعين، القائل: "مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (١).
اللَّهم فقِّهنا في ديننا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا.
أما بعد:
إن من الحوافز التي شجعتنا على الاشتغال بهذا الكتاب، الاعتبارات الآتية:
١ - نسبة هذا الكتاب إلى العالم الجليل القاضي عياض:
إن القاضي عياضًا بأسلوبه المتين، ولغته الرصينة، وإتقانه لفني الرواية والدراية، وتمكنه من علل الأحكام، وخبرته في ضبط أسماء الأماكن
_________
(١) أخرجه الترمذي في كتاب العلم عن رسول الله ﷺ، سنن الترمذي: ٥/ ٢٨ والنسائي في كتاب العلم، السنن الكبرى: ٣/ ٤٢٥، وابن ماجه في باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، سنن ابن ماجه: ١/ ٨٠.
مقدمة / 5
والرجال، بهذه المدارك الواسعة استطاع أن يحفظ للمعلومة صحتها، وأن يبلغها للقارئ في أجود حللها. وقد استطاع بعلمه أن ينتزع الشهادة من علماء المشرق والمغرب برسوخ قدمه في العلم بفنونه المختلفة. فهو كما قيل: شجرة نبتت بالمغرب وفاح شذاها بالمشرق، وهو معتمد الكثير من العلماء شرقًا وغربًا، فلا يليق بنا أن نترك علمه يضيع بين ركام المخطوطات من غير أن نحاول نشره، وأن نكون نحن المغاربة من السباقين لذلك.
٢ - ارتباط الكتاب بالمدونة:
إن موضوع الكتاب يتناول مصدرًا أساسًا من مصادر المالكية، وهو "المدونة"، وهي المصدر الثاني بعد "الموطأ"، وهذا المصدر رغم سلاسة أسلوبه فإنَّه ما زال في حاجة إلى الكثير من البحث والتعمق في بعض جزئياته. وما جاء به القاضي عياض في كتابه هذا يوضح الكثير من المسائل التي ربما لا ينتبه إليها القارئ العادي، ولا تثير إلا انتباه المتخصصين.
٣ - الوضع الحالي للمدونة:
إن قراءة "المدونة" كما هي عليه اليوم ستجيب عن السؤال: لماذا يتعب الطلبة والفقهاء أنفسهم بقراءة مختصر خليل، وفك ألغازه، ويتركون "المدونة"، وهي سهلة الأسلوب واضحة المعاني مقرونة في غالب أبوابها بالأدلة من الأحاديث والآثار، وهي مطبوعة ومتداولة؟ لكن بعد قراءة "التنبيهات" يتبين أن تدريس "المدونة" بوضعها الحالي بنسخها المطبوعة، فيه مجازفة كبيرة، لما فيها من الأخطاء، كما يجب الاحتياط من أخذ الأحكام منها إلا للفقهاء الممارسين الذين يدركون الخلل الفقهي بملكتهم الفقهية، ويتنبهون بذوقهم للأخطاء الطارئة على النص. وفي نسخها الكثير من هذا النوع. كما يوجد في نسخها المطبوعة اختلافات في النص بزيادة أو نقصان، وعندما يأتي القارئ ليقارن بينها فقد يضيف إلى هذه الطبعة ما نقصها من الطبعة الأخرى، وهو لا يعلم أن هذا النقص هو نقص في الرواية، وأن هذا الاختلاف ناشئ عن اختلاف الروايات. وهذا لا يوضحه
مقدمة / 6
إلا كتاب "التنبيهات"، وهنا تظهر حاجة "المدونة" إلى هذا الكتاب.
٤ - " المدونة" ومختصر خليل:
من خلال قراءة كتاب "التنبيهات" يدرك القارئ قيمة مختصر خليل، ويعرف المقصود مما فيه من الإشارات، فهو عندما يذكر مصطلحات مثل: (تأويلان، أو تأويلات، ظاهره، والصحيح)، إلى غير ذلك من المصطلحات التي قد يحفظها الطالب من غير أن يدرك معناها. قد لا يعرف ماذا تعني، لكنه عندما يدرس كتاب "التنبيهات" يفهم أن ما يشير إليه خليل ناشئ عن اختلاف روايات "المدونة"، وتأويل المختصرين لها، واختلاف الشارحين لنصوصها.
وبذلك تدرك أهمية الشيخ خليل الذي حاول جمع المذهب في كتيب صغير الحجم، كثير العلم، وإن كان في عبارته تعقيد في بعض الأحيان، إلا أنَّه استطاع أن يجمع علمًا كثيرًا في عبارة وجيزة، وكمثال على ذلك مسألة طال الكلام فيها في رواية علي بن زياد "للموطأ" وفي "المدونة"، وهي مسألة أن ما قطع من الصيد من يد، أو رجل، أو أذن، أو غير ذلك - غير الرأس - لا يؤكل؛ لأنه غير مذكى، إذا لم تنفذ به مقاتل الصيد، لأنَّ الصيد ذكاته بذلك، فلا يؤكل المقطوع دون النصف إلا الرأس.
وجاءت هذه المسألة في "الموطأ" الزيادي في فقرة طويلة، من عشرة أسطر، وكذلك وردت في "المدونة" بتسعة أسطر. وهذا البسط يجمعه ما أشار إليه خليل بعبارة وجيزة دقيقة مفيدة وهي: "ودون نصف أبين ميتة إلا الرأس" (١).
٥ - حاجة "المدونة" إلى كتاب التنبيهات:
لا يمكن الاستغناء عن هذا الكتاب في تصحيح "المدونة" وفهم نصوصها، وقد اعتمده الكثير من العلماء الذين شرحوا "المدونة"، أو علقوا
_________
(١) انظر: مقدمة تحقيق موطأ مالك برواية علي بن زياد للشيخ الشاذلي النيفر، ص: ١٠، والعبارة في المختصر: ٩١.
مقدمة / 7
عليها، كما استدل به الكثير من الفقهاء الذين شرحوا كتبًا أخرى في الأحكام الفقهية.
ومن أجل هذه المكانة التي يحتلها هذا الكتاب فإن مكانه الطبيعي هو أن يطبع بهامش "المدونة"، عندما يكون محققًا، ومؤهلًا للطبع، ولا يعدو أن يكون تحقيق هذا الكتاب مفتاحًا لمن أراد أن يشتغل بتحقيق "المدونة".
بناء على هذه الاعتبارات تأكدت رغبتنا في العمل على تحقيق هذا السفر ومحاولة تخليصه من قيود الخزانات التي ظل محبوسًا في رفوفها، ونرجو أن يتم إطلاق سراحه بهذا العمل المتواضع.
وسنحاول جهد المستطاع ترميم نصوصه، ووضعها في قالب يسهل على القارئ الاستفادة منه، وذلك بوضع النقط والفواصل، وتحديد الفقرات، معتمدين في ذلك على ما فهمناه من النص حسب ما أتيح لنا من النسخ.
وقد قسم هذا العمل إلى قسمين:
• القسم الأوّل: دراسة الكتاب:
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأوّل: القاضي عياض: شخصيته وحياته العلمية:
المبحث الأوّل: التعريف بالقاضي عياض.
المبحث الثاني: حياته العلمية.
المبحث الثالث: آثار القاضي عياض العلمية.
المبحث الرابع: أثر القاضي عياض في فن التحقيق.
الفصل الثاني: وقفات مع "المدونة":
المبحث الأوّل: قصة تدوين "المدونة".
المبحث الثاني: خدمة "المدونة" قبل القاضي عياض.
مقدمة / 8
المبحث الثالث: روايات "المدونة" وأسانيدها.
المبحث الرابع: اختلاف نسخ "المدونة".
المبحث الخامس: اختلاف نسخ "المدونة" المطبوعة.
المبحث السادس: نصوص طرحها سحنون من "المدونة".
الفصل الثالث: التعريف بكتاب "التنبيهات".
المبحث الأوّل: عنوان الكتاب ونسبته لمؤلفه
المبحث الثاني: مضامين الكتاب ومقاصده.
المبحث الثالث: مصادر الكتاب
الفصل الرابع: منهج القاضي عياض في دراسة قضايا الكتاب:
المبحث الأوّل: قضايا الرواية والدراية.
المبحث الثاني: القواعد الفقهية.
المبحث الثالث: ملاحظات تقويمية عامة.
• القسم الثاني: التحقيق:
وفيه كان الكلام عن النسخ وبيان رموزها، وما يتميز به بعضها عن بعض، وعن المنهج المتبع في التحقيق.
والله نسأل أن يحقق رجاءنا، وأن يكلل مسعانا بالتوفيق.
مقدمة / 9
القسم الأوّل: الدراسة
الفصل الأوّل: القاضي عياض؛ شخصيته وآثاره العلمية:
المبحث الأوّل: التعريف بالقاضي عياض.
المبحث الثاني: شخصيته العلمية.
المبحث الثالث: آثاره العلمية.
المبحث الرابع: أثره في فن التحقيق.
مقدمة / 11
المبحث الأوّل: التعريف بالقاضي عياض
أولًا: نسبه:
هو الإمام الحافظ، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي (١). هذا هو النسب الذي ذكره ابنه نقلًا عنه، إلا أنَّه استدرك أن والده كان يقول: لا أدري، هل محمد والد عياض أو بينهما رجل فهو جده (٢). ونقل أبو العباس أحمد المقري عن أبي القاسم بن الملجوم تلميذ القاضي عياض أن القاضي عند انصرافه من سبتة قاصدًا الحضرة المراكشية زارهم في دارهم بمدينة فاس فسأله ابن الملجوم عن نسبه فقال القاضي: إنما أحفظ عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض، وأحفظ بعد ذلك محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض، ولا أعرف أن محمدًا هذا أبو عياض أو بينهما أحد (٣).
وهذان المصدران يتفقان على سلسلة أجداده كما يتفقان على محلّ الخلاف، وهما مصدران جديران بكل ثقة.
_________
(١) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٤. أزهار الرياض: ١/ ٢٣.
(٢) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٢. أزهار الرياض: ١/ ٢٥.
(٣) أزهار الرياض: ١/ ٢٣ - ٢٤.
مقدمة / 13
ويرتفع نسب عياض إلى يحصب بن مالك بن زيد. ويحصب أخو ذي أصبح الحارث بن مالك بن زيد الذي ينتهي إليه نسب الإمام مالك بن أنس الأصبحي (١).
وهذا النسب يثبت أن عياضًا عربي الأصل والسلالة، يرتبط بالإمام مالك بصلتين: صلة القربى والنسب بالانتساب إلى قبيلة حمير من عرب اليمن. وصلة الاقتداء بمذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس الذي تمسك به أهل المغرب، وكان عياض من أبرز أعلامه وأشهرهم.
هذا وقد تسلسلت المعالي والمفاخر في هذه الأسرة قبل القاضي عياض وبعده، قال عبد الله بن حكم - معاصره - يمدحهم:
وكانت لهم بالقيروان مآثر ... عليهم لمحض الحق أوضح برهان (٢)
وكان للجد عمرون بفاس ولآبائه نباهة (٣). وكان رجلًا فاضلًا من أهل الخير، حافظًا لكتاب الله، حج إحدى عشرة مرة، وظل منقطعًا لعبادة الله في مسجده إلى أن توفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة (٤).
وعُرف ابن أخي القاضي عياض أيضًا أبو عبد الله الزاهد بالعلم والزهد، وقد استخلفه عمه على قضاء غرناطة (٥).
وعُرف من أسرة أمه بتعاطي العلم خالاه أبو بكر محمد وأبو محمد عبد الله ابنا علي المعافري المعروف بابن الجوزي (٦).
أمَّا في عقبه فقد توارث آله القضاء من بعده؛ فتولاه ابنه محمد بن
_________
(١) انظر: مجلة المناهل: عدد ١٩. ص: ١٣.
(٢) التعريف: ٣.
(٣) التعريف: ٣.
(٤) التعريف: ص: ٤ - ٥.
(٥) العريف: ١٠٦، ١٠٨.
(٦) انظر عنهما: الغنية: ١٩٨، والمدارك: ٨/ ١٨٣، والذيل والتكملة: ٨/ ٢/ ٥٣٠.
مقدمة / 14
عياض المتوفى ٥٧٥ هـ (١)، ثم تولاه حفيد ابنه هذا محمد بن عياض بن محمد بن عياض المتوفى ٦٥٥ هـ (٢). وكان حفيده - عياض بن محمد بن عياض - محدثًا فقيهًا معظمًا مهيبًا (٣).
ثانيًا: مولده:
اتفقت كتب التراجم على أن مولد عياض كان في سنة ست وسبعين وأربعمائة من الهجرة (٤). وعلى وجه التحديد في منتصف شهر شعبان، وقد كتب بذلك بخطه إلى ابن بشكوال. وكان مولده في سبتة (٥) التي انتقل إليها جد أبيه عمرون من مدينة فاس التي دخلها أجداده مرتحلين إليها من الأندلس، وقد انتقل عمرون إلى مدينة سبتة ليكون قريبًا من قرطبة التي ارتحل إليها أخواه، القاسم بن موسى بن عياض، وعيسي أخوه ليتتبع أخبار أخويه. وقد أعجبته مدينة سبتة، فاشترى بها أرضًا، وسكنها، وبنى بها مسجدًا، ومباني أخرى، جعل ريعها حبسًا على المسجد، وخصص باقي الأرض للدفن.
ثالثًا: نشأته العلمية:
نشأ القاضي عياض في سبتة، في بيت علم ودين، فكان البيت الذي ولد فيه هو المدرسة الأولى التي بدأ يتلقى فيها مبادئ الدين الضرورية، فكانت البداية أولًا من شيوخ بلده، فبدأ بحفظ كتاب الله حتى أتقنه، ثم
طلب الحديث والفقه، وتتلمذ في هذه الفنون على شيوخ سبتة في وقته.
_________
(١) انظر: الذيل والتكملة: ٨/ ١/٣٤٥، ٨/ ٢/ ٥٠٣.
(٢) الذيل: ٨/ ١/ ٣٤٢، ٨/ ٢/٥١٦.
(٣) الذيل: ٨/ ١/ ٢٤٤، ٨/ ٢/ ٥٥٨.
(٤) التعريف: ٤ - ٥، تذكرة الحفاظ: ٤/ ٩٦، شذرات الذهب ٤/ ١٣٨، النجوم الزاهرة، ص: ٧٨٤.
(٥) مدينة مغربية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمال المغرب، نسأل الله أن يفك أسرها ويخلصها من الاستعمار الإسباني، وهي مدينة ضاربة في القدم، أزهار الرياض: ١/ ٢٩.
مقدمة / 15
يقول محمد ابنه: نشأ أبي على عفة وصيانة، مرضي الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفًا بالنبل والفهم والحذق، طالبًا للعلم، حريصًا عليه، مجتهدًا في طلبه، معظمًا عند الأشياخ من أهل العلم وكثير المجالسة لهم والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه. وكان من حفاظ كتاب الله مع القراءة الحسنة والصوت الجهير، والنغمة العذبة، والحظ الوافر في تفسيره (١).
ولما استوفى القاضي عياض الثلاثين من عمره خرج من سبتة متوجهًا إلى قرطبة، وذلك يوم الثلاثاء منتصف جمادى الأولى سنة سبع وخمسمائة (٢).
وكانت قرطبة تعج بالعلماء والحفاظ، والمشايخ الكبار وطلاب العلم، فأخذ العلم عن أشياخها وحفاظها، ومن بين العلماء البارزين الذين أخذ عنهم بقرطبة: عبد الرحمن بن محمد بن عتاب، ومحمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ومحمد بن عبد العزيز بن حمدين، وأبي الحسين بن سراج، وأبي الحسن بن مغيث، وأبي القاسم النحاس، وغيرهم.
ولم تكن الفترة التي قضاها عياض بقرطبة بالفترة الطويلة، فلم تتجاوز ثمانية أشهر وعشرة أيام، لكنها كانت ذات تأثير كبير على شخصيته، وكان لها طيب الأثر على نفسه وعلى عاطفته، وقد سجل هذه الأحاسيس في شعره حيث يقول:
أقول وقد جد ارتحالي وغردت ... حداتي وزمت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي
ولم يبق إلا وقفة يستحثها ... وداعي للأحباب لا للحبائب
لم يغادر القاضي عياض قرطبة قافلًا إلى بلده، بل غادرها متجهًا إلى
_________
(١) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٦.
(٢) أزهار الرياض: ٣/ ٨.
مقدمة / 16
مركز علمي آخر، وإلى عالم جليل آخر، وكان وداعه لقرطبة يوم الاثنين الخامس والعشرين من المحرم سنة ثمان وخمسمائة قاصدًا مرسية بشرق الأندلس، وكان وصوله إليها يوم الثلاثاء الثالث من صفر من نفس السنة. وكان الأمل من وراء هذه الرحلة الالتقاء بحافظ العصر أبي علي الصدفي (١)، والأخذ عنه، لكن لما وصل إلى مرسية فوجئ باختفاء قاضيها الصدفي، وذلك لرفضه الاستمرار في القضاء، ووجد جموع المرتحلين للسماع منه ينتظرونه، غير أن انتظارهم طال، فسافر بعض منهم لنفاذ ما معهم من النفقة، وانتظر هو بقية شهر صفر وربيع الأول. وفي انتظار أن يعلم مكان الصدفي أخرج كتبه واشتغل بالمقابلة مع أصول الشيخ، فقابل الكثير منها على خاصة الصدفي وأهله. ومرت الأيام، ويصدر العفو عن الصدفي من ممارسته القضاء، فيرسل إلى عياض يخبره بذلك وبأسفه على قدومه وهو في اختفائه ويقول له: لولا أن الله يسر خروجي بلطفه لكنت عزمت أن أشعرك بموضع يقع عليه الاختيار من بلاد الأندلس لا يؤبه لكوني فيه، ترحل إليه، وأخرج مختفيًا إليه بأصولي، فتجد ما ترغب، لما كان في نفسي من تعطيل رحلتك، وإخفاق رغبتك (٢).
بعد العفو خرج أبو علي الصدفي فجلس يسمع الناس الحديث فلزمه عياض، وسمع عليه الصحيحين، والمؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعيد الأزدي، والشهاب في المواعظ والآدابِ للقضاعي المصري.
ويقول عنه ابنه في رحلته إلى الأندلس: إنه لقي جماعة من أعلام الأندلس، وقد أجاز له الحافظ أبو علي الجياني (٣)، ومحمد بن
_________
(١) المعجم في أصحاب القاضي الصدفي، ص: ٦ - ٨. سير أعلام النبلاء، ١٩/ ٣٧٦ - ٣٧٨.
(٢) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٨.
(٣) أبو علي الحسين بن محمد الغساني الجياني محدث الأندلس أخذ عن الباجي وابن عتاب وابن عبد البر، وكان من الحفاظ، بصيرًا باللغة والشعر والأنساب، توفي ليلة الجمعة ١٢ شعبان ٤٢٨ هـ، طبقات الحفاظ: ٤٥٠، طبقات المحدثين: ١٤٦، شذرات الذهب: ٢/ ٢٣١.
مقدمة / 17
عبد الرحمن بن شبرين (١)، وأبو جعفر بن بشتغير (٢)، كما كاتب أبا عبد الله المازري وكان بمدينة المهدية، فأجازه جميع مروياته (٣).
عاد عياض إلى سبتة في ليلة السابع من جمادى الآخرة، سنة ثمان وخمسمائة (٤)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره (٥).
رابعًا: بعض شيوخه:
إن عدد شيوخه يقارب المائة أو يزيدون، وقد خصص لهم كتابه "الغنية". وسنكتفي بذكر أبرزهم خاصة من لهم علاقة بموضوع "المدونة"، أو ورد ذكرهم في مقدمة كتابه "التنبيهات":
١ - أبو عبد الله محمد بن عيسى بن حسين التميمي:
أجلّ شيوخ بلده سبتة، كان مولده بمدينة فاس، فانتقل به أبوه إليها، فأخذ عن أبي محمد المسيلي وغيره، ورحل إلى الأندلس ثلاث مرات، إحداها إلى إشبيلية، والثانية إلى ألمرية، والثالثة إلى قرطبة، وكلها رحلات علمية. أخذ عنه عياض "موطأ مالك" بأسانيد كثيرة (٦)، و"صحيح البخاري" (٧)، و"صحيح مسلم" (٨)، و"سنن أبي داود" (٩)، و"شرح غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام (١٠)، وكتاب "إصلاح الغلط" لأبي
_________
(١) انظر ترجمته في الغنية ص: ٧٥.
(٢) انظر ترجمته في الغنية ص: ٩٩.
(٣) التعريف: ص: ٩.
(٤) أزهار الرياض: ٣/ ١٠.
(٥) التعريف بالقاضي عياض، ص: ١٠.
(٦) الغنية: ص: ٢٩ - ٣٢.
(٧) انظر أسانيده في الغنية: ص: ٣٢ - ٣٤.
(٨) الغنية: ص: ٣٥ - ٣٦.
(٩) نفسه: ص: ٣٧ - ٣٨.
(١٠) نفسه: ص: ٣٨ - ٣٩.
مقدمة / 18
محمد بن قتيبة (١)، وكتاب "غريب الحديث" لأبي سليمان حمد بن محمد البستي الخطابي (٢)، وكتاب "علوم الحديث" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، وكتاب "الطبقات" لمسلم بن الحجاج (٣)، وكتب "المدونة"، و"الملخص" لمسند الموطأ، لأبي الحسن القابسي، و"التقصي" لمسند "الموطأ" لأبي عمر بن عبد البر، ومسند "الموطأ" لأبي القاسم الجوهري، و"الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني (٤). وُلِّيَ قضاء سبتة واستعفى منه فأعفي. وتوفي بها سنة ٥٠٥ هـ (٥).
٢ - عبد الرحمن بن عتاب:
أبو محمد (٦) عبد الرحمن بن محمد بن عتاب بن محسن، مسند الأندلس، من أهل قرطبة، ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة في بيت علم ودين، سمع من أبيه وغيره من شيوخ الأندلس. رحل إليه الناس من كل قطر (٧)، تبوأ مكانة أبيه في العلم والإسناد والفتيا (٨)، أخذ عنه عياض وقابل نسخته من "المدونة" بنسخة أبيه. قال عنه ابن بشكوال: كان من أهل الفضل والعلم والتواضع، وقد كتب بخطه علمًا كثيرًا، في غير ما نوع من أنواع العلم. وقد جمع كتابًا حافلًا في الرقائق والزهد، سماه: "شفاء الصدور". وهو كتاب كبير. وكان صدرًا لمن يستفتي، لسنه وتقدمه. وهو آخر الشيوخ الجلة الأكابر في علو السند وسعة الرواية (٩). توفي سنة عشرين وخمسمائة (١٠).
_________
(١) نفسه: ص: ٣٩.
(٢) نفسه: ص: ٣٩.
(٣) نفسه: ص: ٤٠.
(٤) نفسه: ص ٤٠ - ٤٤.
(٥) نفسه: ص: ٢٨، ٢٩. الصلة: ٢/ ٦٠٥. سير أعلام النبلاء: ١٩/ ٢٦٦.
(٦) بهذه الكنية ذكره عياض في "الإلماع"، ص: ١٤.
(٧) المدارك: ٨/ ١٩٢ - ١٩٣.
(٨) الإلماع، ص: ١٤.
(٩) الصلة: ١/ ٣٣٢.
(١٠) المدارك: ٨/ ١٩٣ الصلة: ١/ ٣٣٣.
مقدمة / 19
٣ - أبو علي الصدفي:
الإمام الحافظ والقاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد بن فِيرُّه المعروف بابن سكرة، نشأ بسرقسطة وقرأ بها القرآن وسمع بها من أعلامها، مثل: أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي وطبقته، وسمع بالمرية من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي، وأبي عبد الله بن المرابط. خرج من المرية قاصدًا الحج، فحج عامه ولقي بمكة أبا عبد الله الحسين بن علي الطبري (١) وأبا بكر الطرطوشي. ثم سار إلى البصرة فلقي أبا يعلى المالكي، وأبا العباس الجرجاني، وأبا القاسم بن عقبة، وغيرهم. وخرج من البصرة قاصدًا بغداد، فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الإصبهاني وغيره، ثم دخل بغداد فمكث بها خمس سنين كاملة، سمع فيها من أبي الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون، مسند بغداد، ومن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي، ومن أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، ومن أبي عبد الله الحميدي. وتفقه على الفقيه أبي بكر الشاشي وغيره. ثم رحل عن بغداد فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وأبي الفرج سهل بن بشر الإسفرائيني، وغيرهما.
ومن دمشق رحل إلى مصر فسمع بها من القاضي أبي الحسن علي بن الحسين الخلعي، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي، وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم مهدي بن يوسف الوراق، ومن أبي القاسم شعيب بن سعد، وغيرهما.
هكذا كانت رحلة الصدفي إلى المشرق، وعاد إلى الأندلس في صفر سنة تسعين وأربعمائة، ليبث العلوم التي جمعها، في حلقاته التعليمية، وليسمع منه الطلبة كما سمع من الشيوخ، وكان عياض من بين الذين سمعوا منه هذا العلم الذي جمعه (٢).
_________
(١) شيخ الحرم أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري، راوي صحيح مسلم، توفي في شعبان، سنة ٤٩٨ هـ. طبقات المحدثين: ١/ ١٤٦، طبقات الحفاظ: ١/ ٢٤٢، سير أعلام النبلاء: ١٩/ ١٥١، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين: ٤/ ٢٠٠ - ٢٠١.
(٢) المعجم في أصحاب القاضي الصدفي: ص: ٨، ٧، ٦.
مقدمة / 20
٤ - محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (١) (ت: ٥٢٠ هـ):
اعتمد القاضي عياض في الكثير من المسائل الفقهية في كتابه "التنبيهات" على شيخه ابن رشد، وقد تتلمذ عليه بقرطبة قبل أن يرجع إلى سبتة مدرسًا وقاضيًا. كما وجه إليه أسئلة كثيرة في مشكلات قضائية عرضت له في القضاء، من دقائق الفقه ومتشابه المسائل، ومختلف الروايات (٢).
قال عنه عياض: جالسته كثيرًا، وساءلته واستفدت منه، وسمعت بعض كتابه في اختصار المبسوطة من تآليفه يُقرأ عليه، وناولني بعضها، وأجازني الكتاب المذكور، وسائر رواياته (٣).
خامسًا: محنته ووفاته:
بالرغم من كثرة الكتابات عن القاضي عياض (٤) فإن بعض فترات حياته وبعض مواقفه ما تزال بحاجة للبحث والنقاش، كعلاقته بالموحدين (٥)، وموقفه من إحياء علوم الدين (٦)، وتوليه القضاء في عهد الموحدين بقرية داي، وسبب موته، وتاريخ دخوله مدينة مراكش، إلى غير ذلك. ولا غرابة في أن يقع الاختلاف بين المؤرخين في بعض الجوانب من حياته، لأنَّ بعض الذين كتبوا عنه في الفترة الأولى للموحدين لا يبعد أن تكون السياسة الجديدة قد شكلت في نفوسهم رقابة ذاتية جعلتهم يحتاطون فيما يكتبون.
_________
(١) انظر ترجمته في الصلة: ٢/ ٧٥٦، الغنية: ٥٤، عيون الأنباء: ٥٣٠، الإحاطة: ١/ ١١٤، المرقبة العليا: ٩٨. الديباج ص: ٢٧٨.
(٢) فتاوى ابن رشد: ١/ ٢٤.
(٣) الغنية ص: ٥٥.
(٤) انظر: أبو الفضل القاضي عياض السبتي. (ثبت ببليوغرافي) فقد جمع فيه ٤٨١ مرجعًا، بين مقال وكتاب كلها تتحدث عن عياض، إما بطريقة إجمالية، أو تفصيلية. للدكتور حسن الوراكلي.
(٥) انظر: التعريف ص: ١١. الاستقصاء: ١/ ١١٦، وانظر: تعليق الأستاذ بنشريفة بهاش التعريف ص: ١١.
(٦) انظر: القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث ص: ١١١ - ١١٣.
مقدمة / 21
كما يمكن أن تختلف الآراء في هذه الفترة بين موال ومعاد. وغالبًا ما تضيع الكثير من الحقائق في مثل هذه الفترة التي تسقط فيها دولة، وتقوم على أنقاضها دولة أخرى. فالقاضي عياض ابتسمت له الحياة السياسية في عهد المرابطين طالبًا، ومدرسًا، وقاضيًا، فاستغل هذه الفترة المزدهرة من حياته في جمع العلم ونشره، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان وفيًا لهذه الدولة التي اهتمت بالفقه والفقهاء، لكن هذه الفترة لم تدم طويلًا حتى بدأت ملامح دولة أخرى تلوح في الأفق، يطرد لمعان شعاعها الضوء الخافت المتبقي من دولة المرابطين. فإذا كان القاضي عياض ومن سبقه من العلماء هم حملة مشعل الهداية في عهد المرابطين، وهم فقهاء الدولة، فإن الذي يحمل في الدولة الجديدة مشعل الهداية والإرشاد في بداية أمرها هو الذي يحمل مشعل السياسة، ألا وهو الفقيه السياسي المهدي بن تومرت. وما هي إلا أعوام قليلة بعد وفاة المهدي حتى تتقدم جيوش الموحدين نحو سبتة، فيكون عياض في حيرة من أمره، كيف يتعامل مع هذه الدولة الفتية التي يختلف معها في الكثير من مناهجها. ورغم هذا الاختلاف فقد ساير هذه الدولة إلى أن توفي، وقد أراد الله له ألا يموت إلا بعد أن يشهد وفاة دولة المرابطين، ويشهد ميلاد دولة الموحدين، وبين هاتين الدولتين اختلاف كبير في المنهج السياسي والعقدي، مما يجعل فترة انسجام عياض مع توجهات هذه الدولة لا يمكن أن تمر من غير أن تحدث هزات نفسية في نفسه إن لم تضع حدًّا لحياته. فهي - لا شك - ستخلق له متاعب صحية، ولم تطل هذه المدة التي عاش فيها عياض في كنف السلطان الجديد حتى اختاره الله لجواره، فتوفي ليلة الجمعة - نصف الليل - التاسعة من جمادى الأخيرة من سنة أربع وأربعين وخمسمائة (١)، ودفن بمراكش ﵀ في باب أيلان داحنل السور كما قال ابنه (٢).
_________
(١) التعريف ص: ١٣. الصلة: ٢/ ٤٣٠، أنباء الرواة: ٢/ ٣٦٤، المختصر في أخبار البشر ص: ٧٣٢، النجوم الزاهرة: ٥/ ٢٨٤، تذكرة الحفاظ: ٤/ ٩٨.
(٢) التعريف ص: ١٣.
مقدمة / 22