مركز علمي آخر، وإلى عالم جليل آخر، وكان وداعه لقرطبة يوم الاثنين الخامس والعشرين من المحرم سنة ثمان وخمسمائة قاصدًا مرسية بشرق الأندلس، وكان وصوله إليها يوم الثلاثاء الثالث من صفر من نفس السنة. وكان الأمل من وراء هذه الرحلة الالتقاء بحافظ العصر أبي علي الصدفي (١)، والأخذ عنه، لكن لما وصل إلى مرسية فوجئ باختفاء قاضيها الصدفي، وذلك لرفضه الاستمرار في القضاء، ووجد جموع المرتحلين للسماع منه ينتظرونه، غير أن انتظارهم طال، فسافر بعض منهم لنفاذ ما معهم من النفقة، وانتظر هو بقية شهر صفر وربيع الأول. وفي انتظار أن يعلم مكان الصدفي أخرج كتبه واشتغل بالمقابلة مع أصول الشيخ، فقابل الكثير منها على خاصة الصدفي وأهله. ومرت الأيام، ويصدر العفو عن الصدفي من ممارسته القضاء، فيرسل إلى عياض يخبره بذلك وبأسفه على قدومه وهو في اختفائه ويقول له: لولا أن الله يسر خروجي بلطفه لكنت عزمت أن أشعرك بموضع يقع عليه الاختيار من بلاد الأندلس لا يؤبه لكوني فيه، ترحل إليه، وأخرج مختفيًا إليه بأصولي، فتجد ما ترغب، لما كان في نفسي من تعطيل رحلتك، وإخفاق رغبتك (٢).
بعد العفو خرج أبو علي الصدفي فجلس يسمع الناس الحديث فلزمه عياض، وسمع عليه الصحيحين، والمؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعيد الأزدي، والشهاب في المواعظ والآدابِ للقضاعي المصري.
ويقول عنه ابنه في رحلته إلى الأندلس: إنه لقي جماعة من أعلام الأندلس، وقد أجاز له الحافظ أبو علي الجياني (٣)، ومحمد بن
_________
(١) المعجم في أصحاب القاضي الصدفي، ص: ٦ - ٨. سير أعلام النبلاء، ١٩/ ٣٧٦ - ٣٧٨.
(٢) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٨.
(٣) أبو علي الحسين بن محمد الغساني الجياني محدث الأندلس أخذ عن الباجي وابن عتاب وابن عبد البر، وكان من الحفاظ، بصيرًا باللغة والشعر والأنساب، توفي ليلة الجمعة ١٢ شعبان ٤٢٨ هـ، طبقات الحفاظ: ٤٥٠، طبقات المحدثين: ١٤٦، شذرات الذهب: ٢/ ٢٣١.
مقدمة / 17