يقول محمد ابنه: نشأ أبي على عفة وصيانة، مرضي الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفًا بالنبل والفهم والحذق، طالبًا للعلم، حريصًا عليه، مجتهدًا في طلبه، معظمًا عند الأشياخ من أهل العلم وكثير المجالسة لهم والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه. وكان من حفاظ كتاب الله مع القراءة الحسنة والصوت الجهير، والنغمة العذبة، والحظ الوافر في تفسيره (١).
ولما استوفى القاضي عياض الثلاثين من عمره خرج من سبتة متوجهًا إلى قرطبة، وذلك يوم الثلاثاء منتصف جمادى الأولى سنة سبع وخمسمائة (٢).
وكانت قرطبة تعج بالعلماء والحفاظ، والمشايخ الكبار وطلاب العلم، فأخذ العلم عن أشياخها وحفاظها، ومن بين العلماء البارزين الذين أخذ عنهم بقرطبة: عبد الرحمن بن محمد بن عتاب، ومحمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ومحمد بن عبد العزيز بن حمدين، وأبي الحسين بن سراج، وأبي الحسن بن مغيث، وأبي القاسم النحاس، وغيرهم.
ولم تكن الفترة التي قضاها عياض بقرطبة بالفترة الطويلة، فلم تتجاوز ثمانية أشهر وعشرة أيام، لكنها كانت ذات تأثير كبير على شخصيته، وكان لها طيب الأثر على نفسه وعلى عاطفته، وقد سجل هذه الأحاسيس في شعره حيث يقول:
أقول وقد جد ارتحالي وغردت ... حداتي وزمت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي
ولم يبق إلا وقفة يستحثها ... وداعي للأحباب لا للحبائب
لم يغادر القاضي عياض قرطبة قافلًا إلى بلده، بل غادرها متجهًا إلى
_________
(١) التعريف بالقاضي عياض، ص: ٦.
(٢) أزهار الرياض: ٣/ ٨.
مقدمة / 16