الملاحظة الأولى:
هي هذه العبارة التي أود أن تتحول إلى أجراس تقرع في آذاننا حتى يصحو النائم ويتنبه الغافل، وأعني العبارة التي تقول إنه «لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته»، فإذا كان رجل كالغزالي في منزلته العقلية وفي مكانته الفقهية، وفي زمنه الذي يقع في صميم الفترة التاريخية التي يريد بعضنا اليوم أن يحييها ليحاكيها، إذا كان رجل كهذا في ظروفه تلك يبعد «التقليد» من جملة الأساليب الفكرية التي يصح الوقوف عندها، فهل يجوز لعاقل بعد ذلك أن يقول في عصرنا هذا بمبدأ التقليد؟ ألا إنه لو كان في تراثنا ما ينقل ويقلد، فهو هذه الوقفات المنهجية العظيمة التي وقفها الأولون.
وأما الملاحظة الثانية:
التي لا أحب أن أجعلها تمر مرورا عابرا في سياق الحديث ؛ ولذلك فسوف أعود إليها في موضع أو مواضع تالية من هذا الكتاب، فهي: كلمة «الحق» ماذا تعني؟ كان رجال الفكر الذين قسمهم الغزالي إلى أصناف أربعة - أو إلى مدارس أربعة إذا استخدمنا لغة عصرنا - يطلبون «الحق»، تماما كما يطلبه رجال الفكر في كل العصور، لكن يا ويلتاه «للحق» من تعدد معانيه على أيدي المفكرين، إنه يتشعب على أيديهم ألف معنى ومعنى، كل منهم يأخذه من زاوية معنى واحد، فيظن بعد ذلك أنه إذا اختلف مع غيره مذهبا ورأيا، فقد اختلف معه اختلافا يجعله هو على «حق» ويجعل الآخر على باطل، مع أن هذا الآخر لا يختلف عنه إلا في أخذه لجانب آخر من جوانب الحق الكثيرة المتعددة.
فماذا يعني هؤلاء المفكرون - ومعهم الغزالي نفسه وغيره من أئمة المفكرين في تراثنا - ماذا يعنون «بالحق» الذي يطلبونه ويتفرقون في سبيله فرقا وجماعات؟ خذ معناه كما صاغه الغزالي في هذا السياق: «ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق.» وفي ظني أننا لو وقفنا من هذا التعريف وقفة نزيهة موضوعية متأملة، لكفانا ذلك جهدا وعناء ما أغنانا عنهما فيما ينشب بيننا من نقاش؛ لأنه إذا كان «الحق» عند أولئك الأسلاف من المفكرين هو «العقيدة» التي أنزلها الله إلى عباده على لسان رسوله، إذن فليس هو إلا جانبا واحدا من الحق كما نطلبه اليوم، فنحن منصرفون اليوم بمعظم سعينا نحو طلب الحق من حيث هو قوانين الطبيعة من صوت وضوء وكهرباء ومغناطيسية وجاذبية وغيرها، ومن حيث هو بناءات رياضية نقيمها بالتفصيلات المعقدة المركبة التي يعرفها علماء الرياضة، والتي لا يعلم أمثالي منها إلا مجمل الاتجاه في عمومه، ومن حيث هو نظم اقتصادية ونظم اجتماعية ما زلنا حتى هذه الساعة نتخبط حيالها في ظلام؛ لأن العالم منقسم في موضوعها لم يرس بعد على بر يستريح إليه ويطمئن.
فما أبعد «أصناف الطالبين» اليوم عن أصنافهم بالأمس! إن حقيقة موقفنا الفكري اليوم، هي - على أحسن الفروض - أن الأصناف القديمة الأربعة ما زالت ممتدة في رجال يعيشون بيننا إلى اليوم، لكنهم إذ يبحثون ويتجادلون، فإنما يخاطب بعضهم بعضا، ولا تسمع الدنيا إلا إلى قليل جدا مما يقولون ويكتبون؛ لأن المسائل التي تشغل دنيا اليوم ليست هي مسائل المتكلمين والباطنية والفلاسفة الأقدمين والصوفية، فكل ما قاله هؤلاء مجتمعين لا يغني فتيلا - لا أقول في دفع الصواريخ في الفضاء - بل أقول: إنه لا يغني فتيلا في إعداد المواطن المعاصر تجاه مواطنيه في قومه وتجاه سائر الناس في سائر الأقوام.
ونكتفي بهذا الآن، لنسمع ماذا يقول الغزالي في «أصناف الطالبين» الأربعة.
وأولهم جماعة «المتكلمين»، وهم - بتعريف الغزالي - «الذين ينصرون السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة»؛ ذلك أن الله تعالى قد ألقى إلى عباده على لسان رسوله - كما أسلفنا - «عقيدة هي الحق»، لكن حدث أن شاب هذا الموقف النقي ما ألقاه الشيطان من وساوس المبتدعة من أمور جاءت مخالفة للسنة، فتصدى «المتكلمون» للدفاع عن العقيدة التي تلقاها المسلمون من النبي بالقبول، وهي مهمة تجد عند الغزالي كل تشجيع وتقدير.
لكنه يأخذ عليهم أنهم اعتمدوا في أداء مهمتهم تلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، فلماذا فعلوا؟ اضطروا إلى ذلك إما متأثرين بالتقليد، أو بإجماع الأمة، أو بمجرد القبول الذي اصطنعوه تجاه القرآن وتجاه ما تواتر من الأخبار، تلقوا ذلك كله، وجعلوا همهم الأكبر هو استخراج أوجه التناقض التي تكمن في أقوال خصومهم؛ فطريقتهم هي أن يسلموا لهؤلاء الخصوم - جدلا - بما يدعون، ليأخذوا في تحليله وعرض ما ينطوي عليه من نقائض. ويعلق الغزالي على هذا الموقف قائلا إنه قد يفي بمقصودهم، لكني وجدته «غير واف بمقصودي»، وإنه «قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا»؛ أي أن جهود المتكلمين كلها تذهب عبثا إذا خوطب بها من يقف موقف الشك من كل شيء فيما عدا الحقائق العقلية الأولية الضرورية، كمبادئ المنطق الصوري والرياضيات.
ومرة أخرى نود لو جاءت عبارات الغزالي في هذا السياق أجراسا تدوي في آذاننا؛ لتوقظنا على حقيقة ساطعة صارخة، وهي أن طرائق المتكلمين التي يدافعون بها عن العقيدة على أساس التسليم بالعقيدة نفسها من حيث المبدأ، لم تقنع رجلا كالغزالي، مع أنه يشاركهم في نوع المشكلات المعروضة للحل، فما بالك بأبناء هذا العصر، والمشكلات نفسها لم تعد مشكلاتهم؟
Unknown page