لقد تحوط الغزالي في حديثه عن المتكلمين وطرائقهم في معالجة المشكلات؛ إذ قال إنه لم يجد عندهم شفاءه، فربما وجد سواه عندهم ما يبتغي، «فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر.» ويريد كاتب هذه الصفحات أن يتحفظ التحفظ نفسه حيال جانب ضخم من تراثنا، لا يراه جزءا من حياتنا الفكرية التي نعيشها، ومحال أن يكون، فيقول: إن عصرنا هذا لن يجد شفاءه فيما قاله هؤلاء السلف في أمورهم، حتى وإن ثبت أن غيرنا قد وجد فيه الدواء الشافي لما يعرض لهم من معضلات.
وينتقل الغزالي بعد المتكلمين إلى الفلاسفة كالفارابي وابن سينا؛ وهنا نراه - كعادته في كتاباته النقدية على اختلافها - لا يقبل بالجملة ولا يرفض بالجملة، بل ينظر إلى التفصيلات والفروع، فلعل فيها ما يقبله كما أن فيها ما يرفضه.
ويبدأ بتقسيم الفلاسفة - كما وجدهم بالفعل في الثقافة الإسلامية التي يتناولها بالنظر والتحليل - ثلاثة أقسام، هم: الدهريون، والطبيعيون، والمؤلهة. ثم يأخذ في تحديد كل فئة من هؤلاء تحديدا موجزا لكنه نافذ ودقيق؛ فأما الدهريون: فهم الذين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا بنفسه وبغير صانع. وأما الطبيعيون: فيعترفون بالصانع الحكيم المطلع على غايات الطبيعة التي صنعها وخلقها، غير أنهم اعتقدوا أن القوة العاقلة - كسائر قوى الحيوان - نابعة من مزاج الإنسان، وأنها تبطل ببطلان ذلك المزاج فتنعدم، ثم لما كان من غير المعقول أن يعاد المعدوم، فقد جحدوا الآخرة؛ وبالتالي أنكروا العقاب والثواب «فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام.» ولا ريب في زندقة هؤلاء الطبيعيين وأولئك الدهريين؛ لأن أصل الإيمان - كما يقول الغزالي - هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والدهريون ينكرونهما معا، والطبيعيون ينكرون اليوم الآخر وإن يكونوا يؤمنون بالله. وأما الفئة الثالثة من الفلاسفة، فهم جماعة «الإلهيين»؛ مثل فلاسفة اليونان: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومن تبعهم من فلاسفة المسلمين؛ مثل الفارابي وابن سينا. ولقد رد هؤلاء الإلهيون على الصنفين الأولين من دهريين وطبيعيين. وإذن فهم إلى هذا الحد لا عيب فيهم ولا غبار عليهم، لكنهم يضيفون إلى ذلك الرد مواقف وأقوالا يكفرون في بعضها من وجهة نظر الغزالي، الذي وجد في تفكيرهم ثلاثة أقسام، لا يجوز الحكم على أحدها بما يحكم به على الآخر؛ فقسم فيه كفر وقسم فيه بدعة وقسم ثالث يجوز قبوله.
ويمضي الغزالي - على طريقته في عدم الحكم الإجمالي قبل النظر في التفصيلات - في تحليل نتاج الفلاسفة، فإذا هو عنده ستة علوم: رياضة ومنطق وطبيعة وإلهيات وسياسة وأخلاق. أما الرياضة والمنطق فلا شأن لهما بالعقائد الدينية؛ إذ تنظر الرياضة في الكم وينظر المنطق في طرق الأدلة؛ مما لا يمس العقائد الدينية في مضموناتها. ولا يفوت الغزالي هنا أن ينبه إلى خطرين: خطر أن يرى بعض الناس دقة البراهين الرياضية عند الفلاسفة، فيحسن الظن بجميع علومهم مع أن دقتهم في جانب لا يستلزم دقتهم في جانب آخر. والخطر الثاني هو أن يتصدى قوم لتأييد العقيدة الدينية بجهالة فيظنون أن نصرة العقيدة لا تتم إلا بإنكار شامل لكل ما قاله الفلاسفة، حتى ما هو قائم فيه على برهان حاسم كالمنطق والرياضة. وأما علم الطبيعة عند الفلاسفة فليس به بأس ما داموا يعلمون أن الطبيعة مسخرة لله ولا تعمل بنفسها. وأكثر أغاليطهم ترد في قسم الإلهيات؛ ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها؛ إذ لم يستطيعوا في الإلهيات أن يوفوا بالبراهين على النحو الذي شرطوه في المنطق. ويحصر الغزالي مجموع أغاليطهم في عشرين مسألة، يجب تكفيرهم في ثلاث منها، وتبديعهم في بقيتها - وترى تفصيل ذلك في كتابه «تهافت الفلاسفة» - والمسائل الكفرية الثلاث هي: إنكارهم لبعث الأجساد، وقولهم إن الذي يبعث هو الروح وحدها دون الجسد. والمسألة الكفرية الثانية هي قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. والثالثة قولهم إن العالم المادي أزلي قديم، أي أنه غير مخلوق لله، ويبقى من علوم الفلاسفة علمان هما: السياسة والأخلاق، وهذا ليس فيهما ما يعرضهم لكفر وزندقة.
يفرغ الغزالي من النظر في موقف الفلاسفة من المسائل الفكرية السائدة في عصره، بعد أن فرغ من النظر في موقف المتكلمين. ثم ينتقل إلى الفئة الثالثة، وهي فئة الباطنية، الذين يذهبون إلى أن الحق لا يعرف إلا عن طريق التعليم - أي أن العقل وحده لا يكفي لإدراك الحق - وأن ذلك التعليم لا يسلم من الخطأ إلا إذا جاء عن طريق إمام معصوم (وسوف أعود بشيء من التفصيل إلى موقف الباطنية لخطره وأهميته حين توزن الثقافة التي نسميها تراثا، وزنا يبين لنا ماذا نأخذ اليوم من تلك الثقافة وماذا ندع). وقد لا يختلف مسلم في وجوب المعلم الذي نتلقى عنه، وفي وجوب عصمته من الزلل، وإلا لجاز الشك فيه، لكن موضع الاختلاف بين مسلم ومسلم هو فيمن يكون هو هذا المعلم المعصوم؟ فأما الباطنية فيمدون هذه الصلاحية إلى سلسلة من الأئمة يختلفون فيما بينهم في عددهم، وأما السنيون - ومنهم الغزالي - فيرون أن محمدا وحده هو الحقيق بهذه الصفة، فقواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة، وأما ما وراء ذلك من التفصيل فيعرف الحق فيه بموازين العقل، مما يكفي فيه كل إنسان ينهج نهج القسطاس المستقيم، ومما يؤدي إلى الاستغناء عن إمام معصوم يجيء بعد صاحب الرسالة. لقد ذهب الباطنية إلى أن ظاهر القرآن يخفي وراءه باطنا، وأنه إذا كان في وسع الإنسان من عامة الناس أن يقرأ ظاهره، فليس في وسع أحد - إلا من ألهمه الله بالقدرة - أن يئول هذا الظاهر بما قد استبطنه، وهذا هو ما يوجب أن يقوم فينا إمام معصوم ملهم، ليدلنا على ذلك الباطن. أما الغزالي فمبدؤه هو (راجع ص53 من كتاب فضائح الباطنية) أن يؤخذ النص بظاهره، إلا حيث يحكم العقل بالضرورة المنطقية على ذلك الظاهر بالبطلان، وعندئذ فقط نعلم أن المراد لا بد أن يكون شيئا غير الظاهر، فنلجأ إلى التأويل المعقول.
وأخيرا ينتقل الغزالي إلى الفئة الرابعة - فئة المتصوفة - فيجد عندهم طريقا يصلهم «بالحق»، هو طريق الإدراك الذوقي المباشر، فيضم نفسه إلى جماعتهم.
ماذا أردنا بهذه الوقفة الطويلة التي أخذنا تفصيلاتها من الغزالي؟ أردنا أن نطلع القارئ على رجال الفكر عندئذ، كيف كانوا، وبأي السمات يتميزون، وما ضروب المشكلات التي تعنيهم؛ ليرى القارئ في وضوح ناصع أن المفكرين في عصرنا من طراز مختلف، وأن مسائلهم من طبيعة مختلفة، وإذن فلن يجد المعاصرون عند الأقدمين قبسا يهتدون به في أزماتهم الفكرية من حيث مضموناتها، وربما وجدوا عندهم ما يصح الاهتداء به في النظرة والمنهج بصفة عامة.
لقد كان محور البحث عند هؤلاء المفكرين - إذا استثنينا بعض معارف الفلاسفة ومباحثهم - هو علاقة الإنسان بالله وبالرسول وبالرسالة، وكيف كان الأمر ليجيء على غير هذا النحو؟ ألم يجدوا بين أيديهم نصا قرآنيا وأحاديث مروية عن الرسول، يراد بهم أن يأخذوا أخذ المطيع لما جاء فيهما؟ فما السبيل إلى معرفة ما جاء فيهما؟ هنا وقع معظم الاختلاف بين الطوائف الأربع التي ذكرناها.
أما نحن اليوم، فقد كادت هذه المشكلة تستقر في نفوسنا عل حلول نستقر عليها في حياتنا السلوكية، ولا ضير أن نتفرق في ذلك فرقا، لكن المهم هو أن المشكلة فقدت حدتها النظرية، شأنها شأن جميع ما يعرض للإنسان في تاريخه الفكري من مشكلات، تستقر على حلول، فتبرد حرارتها، وتجيء الأيام بغيرها مما يستنفد همم المفكرين.
وإن لنا اليوم لمشكلات أخرى، تدور حول علاقة الإنسان بالطبيعة، وبالصناعة، وبزميله الإنسان.
Unknown page