ونعود بعد هذا الاستطراد القصير إلى ما كنا نتحدث فيه، وهو أن الناس يعبرون عن ثقافتهم في مواقفهم من الحياة العملية، حين يندمج الطرفان في كيان عضوي واحد، وعندئذ لا تنشأ أمام الفكر مشكلات؛ لأن طرق السلوك ممهدة مرصوفة بالعرف والتقليد، فإذا حدث كذا استجاب له الناس بكذا، وكانت الاستجابة موضع القبول والرضا عند الجميع، وإنما تنشأ المشكلات حين تحدث فجوة وتتسع بين الثقافة الجارية من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى اقتضتها حياة جديدة لم يألفها القوم، فعندئذ لا استجابات العرف والتقاليد تكون ملائمة وكافية، ولا الناس يملكون الطرق الجديدة التي يواجهون بها الجديد.
لننظر إلى حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما قد ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا، لسبب بسيط، هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرحاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.
فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرق»، فالفرد من الناس إما أن يكون حرا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدا مملوكا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به مولاه، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم: فأولا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثم اتسع المعنى - ثانيا - ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر، على الصورة التي نألفها - على اختلاف أشكالها - في الدول الحديثة. لقد كان يسيرا علينا - أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها - أن نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل المحكوم. أقول إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقي عددا من المواد نجمعها في بضع صفحات، لنقول: هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع والقضاء والإدارة؟
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف؛ فعلى طول التاريخ العربي، ندر - وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة - ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير، أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار ولا الشعب يملك حق العزل ولا القلة ممن لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئا إلا الطاعة أو العصيان والمؤامرة.
ووجدنا أنفسنا في عصرنا هذا بين هذين الطرفين: أنظمة الحكم التي تكفل الحرية للشعب ننقلها على الورق، ثم صورة موروثة تخلع على الحاكم صفات «الخليفة» أو «الأمير» بالمعنى التاريخي القديم، يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء بغير حساب؛ ومن ثم نشأت أمام المفكرين منا مشكلة المطالبة بتحقيق الحرية السياسية تحقيقا يجاوز الكتابة على الورق، ليصبح سلوكا جاريا في صلب الحياة التي نحياها كل يوم.
وشاء لنا القدر الغشوم أن نستيقظ لنجد أنفسنا في قبضات المستعمرين، فكان من الطبيعي أن نوجه الطاقة الثائرة كلها أولا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك لتنظيم البيت ما دمنا قد أصبحنا سادته.
مشكلة الحرية السياسية إذن هي على رأس مشكلاتنا المعاصرة، ولن أجد في «التراث» حلولا لها، لا بل إنها إنما نشأت أساسا بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التي تباعد بين أنظمة الحكم في العصر الحديث، والصورة التي ورثناها عن الحاكمين وما يحيط بهم من جاه وسلطان وهيل وهيلمان.
وأصعب من هذه الحرية السياسية منالا، حرية أخرى يقتضيها عصرنا ولم تكن معروفة ولا مألوفة - في صورتها الحديثة - عند أسلافنا، وأعني بها الحرية الاجتماعية التي تكفل الحياة المادية للمواطنين، حتى لا يجدوا رقابهم في أيدي من يوفرون لهم سبل العمل والعيش. إنها لمهزلة أن نقول للناس: اذهبوا فأنتم الأحرار في انتخاب من يمثلونكم في مجلس النواب، ومن يحاسبون رجال الحكم نيابة عنكم، وبهذا تصبحون أنتم الحاكمين والمحكومين معا، فإذا ما ارتد هؤلاء الناس ليؤيدوا هذا الحق السياسي، وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام سادة يتحكمون في أرزاقهم، وعلى هؤلاء الناس أن يختاروا بين انتخاب أولئك السادة وبين التعطل والتشرد والجوع لأنفسهم ولعيالهم؛ وإذن فلا بد من حرية اجتماعية تصون للناس حق الحياة لكي يصان لهم بالتالي حق انتخاب النائبين فالحاكمين، ولم نكن لنجد حلا لهذه المشكلة الجديدة إذا نحن ارتددنا إلى التراث؛ لأننا إذا وجدنا في هذا التراث مبادئ نظرية تكفل لنا الحرية الاجتماعية المنشودة، وجدناها من جهة أبعد ما تكون عن التطبيق الشامل بحيث تهبط إلينا وكأنها العرف الذي ليس من سيادته مناص، ووجدناها من جهة أخرى أقرب إلى التوصية بالصدقات يتصدق بها الغني على الفقير، فإن فعل كان له الجزاء عند ربه، وإن لم يفعله كان له الجزاء كذلك عند ربه، وفي كلتا الحالتين لا شأن للدولة بالأمر.
وليست مشكلة الحرية بمقصورة علينا في هذا العصر، بل إنها لتتسع حتى تكاد تعم العالم كله، وإن تنوعت أشكالها بتنوع الظروف، فهو عصر تميز بكثرة ما شهده من نظم دكتاتورية ونازية وفاشية وعسكرية، قد يكون لكل منها ما يبرره في سياسة إقليمه الذي ظهر فيه، كأن يتطلب شعب ما وحدة قوية يجابه بها عدوا طامعا فيه، فلا يكون لهذه الوحدة من سبيل أمام القادة إلا أن يفرضوها على الناس بحكم فردي مستند إلى الحديد والنار حتى يزول الخطر، أو أن يتطلب شعب آخر وحدة قوية ريثما يتم له التحول من نظام قديم إلى نظام جديد، ويخشى ألا يتم هذا التحول إذا تمزق الرأي العام تحت ضغوط المذاهب والاتجاهات المتنازعة، لا سيما إذا كان وراء هذه المذاهب والاتجاهات أعداء يتربصون. وهكذا وهكذا، أسباب كثيرة وظروف متنوعة قد تؤدي إلى صورة من صور الحكم الفردي الذي لا يسمح بحرية الرأي ولو إلى فترة محدودة، انتهت بالعالم في عصرنا إلى قيود فرضت على الحريات في أجزاء كثيرة من العالم.
وكان محالا أن تمر الحريات بمثل هذه الأزمات الصارمة، دون أن ينهض لها منقذون في دنيا الأدب والفن والفكر، فتستطيع أن تقول على وجه الإجمال أن معظم تيارات الفلسفة المعاصرة والفن المعاصر والأدب المعاصر، ينصب على هذا الإنقاذ، من وجودية تجعل للفرد كل السلطان على نفسه في اتخاذ لقراراته فيما يصادفه من مواقف، إلى فن تجريدي أو تكعيبي أو سيريالي يجعل للفنان الحق في أن يتحرر من الموضوع الخارجي ليكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تكوين العالم الفني الذي يريد العيش فيه، إلى أدب العبث واللامعقول الذي يجمع عدة أشخاص في مسرحية واحدة يتحدثون دون أن يكون هناك ضرورة اتصال بين قائل وسامع. هذه وغيرها مما يملأ الكتب والصحف والمعارض والمسارح والقصص والشعر، قد انتقل إلينا نحن رجال الفكر والأدب والفن في البلاد العربية، فشاركنا فيه مشاركة من وجد فيه تعبيرا عن حالته، لكنها كذلك مشاركة من أعوزته قوة الابتكار والإبداع، فأخذ الصور الأدبية والفنية والمذاهب الفكرية والفلسفية من الآخرين، ليملأها بمادة محلية من عنده. والمهم في سياق حديثنا هذا هو أن نلحظ كيف أننا حين تأزمت معنا مشكلة الحرية، وجدنا الحلول وأشباه الحلول، لا في التراث العربي القديم، بل وجدناها في النتاج الأوروبي الحديث.
Unknown page