وذلك لأن الفكرة المجردة قد ننظر إليها من زاوية فإذا هي مشتملة على كل شيء، وقد ننظر إليها من زاوية أخرى فإذا هي الفراغ والعدم. انظر إلى هيجل حين أراد أن يتأمل بالفكر المجرد سلسلة الحلقات المتتابعة على طريق الجدل (الديالكتيك)، تجده قد بدأ بفكرة «الوجود» المجرد، أي الوجود الخالص الذي لا يتحدد بأية كيفية تميزه وتعينه، فهو وجود يخلو من الحركة ومن اللون ومن الشكل ومن الحجم ومن كل صفة أخرى من شأنها أن تجعله وجودا موصوفا ذا سمات، لكنه إذا ما بلغ بتجريده للموجودات من صفاتها هذا الحد الذي يجعلها مجرد «وجود» صرف، فإنما يصبح هذا الوجود نفسه هو «العدم». وهكذا يزعم هيجل أن «الوجود» قد انبثق منه نقيضه وهو «العدم»، حتى إذا ما ضممنا الوجود والعدم معا، كان لنا هذه الكائنات التي نراها متسمة «بالصيرورة» والتغير؛ إذ الكائن المتغير موجود وغير موجود في آن معا.
والخطر أفدح الخطر هو أن نتناول في عملياتنا الفكرية مجردات، دون أن نكون على وعي بحالات تطبيقها على أرض الواقع، حين تكون هذه المجردات مزعوما لها أنها مشيرة إلى مدلولات في دنيا الواقع التاريخي، الذي يملأ حيزا من مكان معلوم ويشغل فترة في زمان محدود. إن النظرة من بعيد؛ النظرة التي تجرد الواقع من تفصيلاته مكتفية بحدوده الخارجية وملامحه البارزة، تيسير للنظر العقلي، لكنها في الوقت نفسه تفويت لنا عن رؤية الأجزاء؛ فالنظرة إلى الغابة من بعيد تعطيك صورة الغابة من الخارج، وتستر عنك أشجارها. لقد عبرت بالطائرة رقعة الصحراء ونظرت، فإذا كل الذي أراه بقعة فسيحة صفراء اصفرارا شاحبا، فقلت: كم هنالك يا ترى لو هبطت بنا الطائرة فوق هذه الرقعة الشاحبة المتجانسة! كم هنالك من كثبان وكهوف ومن زواحف وسلاحف ومن شتى صنوف الحياة التي تعج بها كل ذراع من هذه الصحراء؟ لكنها النظرة من بعيد وما تفوته على الإنسان.
أقول ذلك كله وفي ذهني معان كلية أريد التحدث عنها، كمعنى «الثقافة» ومعنى «التراث» حين أقول عن ثقافة معينة إننا لا نعيشها، أو حين أقول عن تراث إننا نريد أن نحييه لينسرب في حياتنا اليوم، فما أسهل أن نسوق ألفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر، ولكن ما أشد اختلاف الصورة حين ندنو بالأعين لنراها من قريب. إن الأخذ بفكرة وهي في صورتها المجردة، من شأنه دائما أن يميل بالإنسان إلى تعصب أعمى وأفق ضيق ونظر محدود؛ لأن الفكرة المجردة - كما قلنا - يمكن أن تشتمل على كل شيء، ويمكن ألا تشتمل على شيء؛ ومن هنا كان المناصر لها والمعارض لها كلاهما، يجدان فيها ما يشتهي كل منهما أن يجد من الشواهد والحجج، وإن هذه القابلية المرنة الفضفاضة لتضيق شيئا فشيئا كلما حشوت خلاء التجريد بصفات محددة تعينه. افرض - مثلا - أنك تتحدث عن «الفن» كفكرة مجردة، فعندئذ قد لا تجد إنسانا يعارضك فيما تقول عنه ، لكنك ما إن تضيف إلى هذا التجريد صفة تحدده، كأن تقول مثلا: إنه الفن التكعيبي الذي أردته بحديثي. فها هنا ينفض عنك أكثر من كانوا يوافقونك قبل هذه الإضافة، وربما لو أضفت صفة أخرى تحدد صنفا معينا من الفن التكعيبي لانفض عنك فريق آخر، وهلم جرا.
وهكذا قل في أشياء كثيرة جدا، فلو قلت «تراث» فيندر أن تجد من يوصي بأن يلقى «بالتراث» في البحر أو في النار، لكنك بعدئذ كلما حددت ما تعنيه أخذ الناس ينفضون من حولك فريقا فريقا، والعكس صحيح أحيانا، أعني أنك قد تجد المعارضة عند ذكرك لفكرة مجردة، حتى إذا ما أخذت تضيف إليها ما يعينها ويحددها أخذ الناس عندئذ يرون فيها ما لم يكونوا يرونه من قبل، فأيدوك جماعة بعد جماعة، كما نلاحظ عند كل دعوة جديدة، بما في ذلك الدعوات الدينية نفسها. لقد حدث أن ورد ذكر «الإسلام» - بهذا التعميم المجرد من تفصيلاته - ذات يوم حين كنت في مجموعة من أساتذة الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحسست في الوجوه شيئا من الرفض الصامت، وسرعان ما تهيأ الظرف ليطلب إلي أن أذكر شيئا من التفصيلات التي تحدد الأركان العامة لهذه العقيدة، وفعلت، فقال قائل منهم: إنه لو كان هذا هو الإسلام، أفنكون إذن مسلمين ونحن لا ندري؟ وتذكرت عندئذ ما قد لاحظه أحد أعلامنا - وربما كان الإمام محمد عبده - من أنك قد تجد في بعض البلاد الأوروبية «مسلمين» بغير «إسلام»، كما قد تجد في بعض البلاد العربية «إسلاما» بغير «مسلمين»، أي أن الإسلام مجموعة من القيم التي لا أحسب عاقلا على وجه الأرض يرفض شيئا منها، من حيث هي مثل عليا، سواء مكنتنا التربية والتنشئة من تمثلها ومن العيش على غرارها أم لم تمكنا من ذلك، وربما وجدت بين من يرفضون «الإسلام» كفكرة مجردة من يعيشون تلك المثل بالفعل، ووجدت بين من يعتنقون هذا الإسلام نفسه كفكرة مجردة، من لا يعيشون من قيمه شيئا.
فما هي الجوانب الهامة البارزة من تراثنا ، التي نعنيها، حين نقول : إننا لا نعيشها اليوم، وإنها ليست بذات صلة بمشكلاتنا المعاصرة، وإذن ينبغي أن تنحصر في جماعة الدارسين المتخصصين وحدهم، دون أن نفتح أمامها الأبواب لتنسرب في عقول الناشئة، أو في ثقافة المثقفين ثقافة عامة، وكأنما هي - ما دامت جزءا من تراثنا - فهي مصونة معصومة صالحة؟ •••
متى يعيش الإنسان ثقافته، ومتى يكون لها كيان مستقل بذاته قائم برأسه ولا شأن له بحياة الإنسان كما يحياها كل يوم؟ إن سؤالا ليفرض نفسه علينا قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد كثر طرح هذا السؤال، وتنوعت الإجابات، حتى أصبح موضوعا تمجه النفس؛ ولذلك فلست أنوي الوقوف عنده لا طويلا ولا قصيرا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما شاء؛ لأن ما سوف أرتبه على مفهومها، لا أظنه يتغير بتغير ذلك المفهوم، فلنفهم الثقافة على أنها طريقة العيش في شتى نواحيه، أو على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيره وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار، أو لنفهمها على مجموعة العلوم والمعارف وأحكام العرف والتقليد، أو لنقصرها على ما يتصل بالذوق وحده - دون العقل - من أدب وفن، فذلك كله لن يؤثر في الفرق بين أن تكون الثقافة - بأي معنى أخذتها - سارية في جسم الحياة العملية سريان الزيت في الزيتونة، كما يقال، وبين أن تجعلها موضوعا للدراسة العلمية النظرية التي لا تمس حياتك العملية في كثير أو قليل.
انظر إلى الفرق بين المتصوف الزاهد، وبين من يجعل التصوف والزهد موضوعا لدراسته، فالأول يعيش زهده وتصوفه، إنه قد لا يعي موقفه كما ينظر إليه المشاهدون، فهو بطبعه أو بإرادته يعصم نفسه من الرغبة ومن الشهوة ومن زخرف الدنيا، وهو بطبعه أو بإرادته يستبطن ذاته متأملا راجيا أن يبلغ به ذلك التأمل مبلغا يتمناه، هو أن يتحد مع «الحق» أو أن يقف من «الحق» موقف الشهود، ثم قد يفيق ذلك المتصوف من وجده ذاك وذهوله وتأمله، ليحلل خبراته التي كابدها، ما واتته اللغة في ذلك التحليل والوصف، ويجيء بعد ذلك دارس التصوف فيجد بين يديه ما كتبه المتصوفة فيجعل منه موضوعا للدراسة والبحث والمقارنة والحكم له أو عليه؛ فهذا الفرق بين الرجلين هو الفرق بين رجل يعيش ثقافته ورجل لا يعيشها، هو الفرق بين المشاهدة من ظاهر والمكابدة من باطن، كالعاشق يعيش حالة العشق لأنه يعانيها ويكابدها وينبض بها قلبه وترتعش أطرافه، وأما من يجيئه خبر العاشق وحالته فهو يلم بالظواهر البادية دون أن ينبض له قلب أو ترتعش أطراف.
شاهد الناس من حولك، تدرك من سلوكهم أي ثقافة يعيشون، فإذا رأيت رجلا تعلم عنه المعسرة ولا تعلم عنه الميسرة، قد أقام المآدب في بذخ واصطنع الغنى أمام الناس مهما كلفه ذلك من دين، فاعلم أنه إنما يعيش ثقافة تعلي من شأن المظهر مهما يكن ما وراءه، أو رأيت رجلا اعتدي على إحدى من يعصمهن من النساء، فلا يلين مضجع تحت جنبيه إلا إذا أخذ بالثأر الذي يشفي غليله، فاعلم أنه إنما يصدر في ذلك عن ثقافة يعيشها، بغض النظر عما يقال عن سلوكه قبل ذلك أو بعد ذلك. إننا نعيش ثقافتنا في كل ما تراه من تفصيلات احتفالاتنا بمناسبات الميلاد والزواج والموت، نعيشها في الطريقة التي نكرم بها الضيف، وفي الطريقة التي نتشكك بها في أمانة الناس، والتي نرتاب بها في أصحاب الجاه ورجال الحكم، والتي نؤمن بها في أعمق أعماقنا بأن أنصبة الناس في حيواتهم مقسومة لهم، وأن آجالهم مكتوبة، وأن مشيئة الله قد سبقت بما كان وما سوف يكون.
ذلك حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس مع دمائهم، فحياتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حياتهم، لا حين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم اسم «المثقفين»، ولا يحدث انسلاخ كهذا - فيما أظن - إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من خارج، لا منبثقة من نفوسهم. إنه لم تكن عند اليونان الأقدمين - كما يقول هربرت ريد - كلمة خاصة تعني «ثقافة»؛ لأنه لم تكن هنالك المجموعة الفكرية القائمة بذاتها والتي تستحق أن تستقل وحدها بلفظة تسميها، كانت الثقافة كاللغة تدور بين الناس في معاملاتهم اليومية، دون أن يشعروا لها بوجود خاص، أما حين أخذ الرومان ثقافة اليونان، أصبحت ثقافتهم - في بادئ الأمر - كيانا قائما وحده متميزا بخصائص؛ فأوحى ذلك لهم بأن الثقافة كالسلعة يستوردها القوم أو يصدرونها. ولما صنع الرومان بعد ذلك ثقافتهم الخاصة بهم من فن العمارة وأدب وأخلاق وقانون وإدارة، وأخذوا يقيمون لأنفسهم إمبراطورية فسيحة الأرجاء، حملوا ثقافتهم معهم وأرادوا فرضها على الشعوب التي يسيطرون عليها.
وجاءت العصور الوسطى التي سادها الدين - إيمانا بالقلوب أو بحثا وتحليلا بالعقول - فعادت الثقافة كما كانت قبل عهد الرومان، جزءا من الحياة العملية، وفقدت استقلالها الذي يجعلها كالسلعة ينفرد بها فريق من الناس دون فريق، يأخذونها ويعطونها ويرسلونها مع قادة الجيوش إلى البلاد التي يغزونها، عادت الثقافة لتكون هي طريقة الحياة ووجهة النظر وأساس العمل والسلوك، تظهر في بناء المساجد والكنائس والمنازل، وفي صناعة الأواني والمصابيح، وفي زخرفة الجدران وأغلفة الكتب وصفحاتها، وعلى البسط والمقاعد والوسائد وزجاج النوافذ وأقمشة الثياب. كان الناس في العصور الوسطى - كما كانوا أيام اليونان الأقدمين، وكما كانوا قبل ذلك إبان الحضارة المصرية القديمة وغيرها من حضارات الشرق - يحملون ثقافتهم وكأنهم يحملون الهواء الشفاف يستنشقونه وهم لا يشعرون بوجوده. وذهبت العصور الوسطى، وجاء عصر النهضة الأوروبية ومعه بدايات الاستعمال الجديد لكلمة «ثقافة»، وهو الاستعمال الذي يشيع بين جماعة المتعلمين إلى يومنا هذا، ومع الثورة الصناعية في أوائل القرن الماضي، جعلت الثقافة تزداد انسلاخا عن دنيا العمل؛ إذ لم يعد الصانع - بعد ظهور الآلة في الصناعة - يستخدم عقله ويديه في عملية واحدة.
Unknown page