Tajdid Carabiyya
تجديد العربية: بحيث تصبح وافية بمطالب العلوم والفنون
Genres
ومع أني أسلم بأن العربي قد عرب وفيه سليقة العرب وفصاحتهم، فإن الواقع يدلنا على أن العربي قد نقل إلى لغته ألفاظا معربة ثقيلة المبنى والمخرج على قدر ما نحكم على هذه الألفاظ بمعيار ذوقنا الحاضر. هذه حقيقة. وأما الحقيقة الثانية فإن قولنا إن العربي قد عرب وفيه سليقة العروبة لا ينبغي أن يحملنا على أن نقضي بأن التعريب علينا حرام لأننا لسنا عربا صليبة، وإنما هو يحفزنا إلى أن نحتاط في التعريب أشد الحيطة، فنعمل دائما على أن يكون المعرب متلائم الحروف، عربي الجرس والمبنى.
وجملة القول أننا في حاجة إلى التعريب ولكن بقصد وبقدر معلوم، على أن نتقيد في التعريب بقواعد، أخصها أن يكون المعرب على وزن عربي من الأوزان القياسية أو السماعية حتى يلائم جرسه جرس الكلمات العربية، فلا يحس منه العربي نفورا، أو يجد فيه تنافرا مع ما تلقى من صيغ لغته الكريمة.
كذلك ينبغي أن نعرف أن التعريب إنما تدعونا إليه ضرورة قصوى يقف عندها جهدنا في البحث والاستقصاء، وتقليب أساليب اللغة على وجوهها المستطاعة. •••
نتكلم الآن في رأي القائلين بالتعريب إطلاقا وبلا قيد. فهم يقولون إن أسماء الحيوان والنبات لغة علمية عالمية لا ينبغي لنا أن نزايلها بوضع ألفاظ ومصطلحات عربية تقصينا عن جو العلم. وفي هذا القول وجه من الضعف ووجه من القوة؛ ذلك بأن القائلين بهذا الرأي قد فطنوا إلى حقيقة، ولكن غابت عنهم حقائق كثيرة لم يجعلوا لها عدلا في كفتي الميزان الذي اتخذوه أداة للحكم في موضوع من أدق الموضوعات التي تتصل بحياة اللغة العربية.
أما الحقيقة التي لم تغب عنهم، فقولهم: إن أسماء الحيوان والنبات حروف عالمية، بمعنى أنها مستعملة برسم واحد في جميع اللغات الحية.
وهذا ما ليس إلى نكرانه سبيل. أما الذي غاب عنهم فحقيقة ذات علاقة شديدة بالحقيقة التي لم تغب عنهم؛ ذلك بأن أسماء الحيوان والنبات لغة عالمية، ولكن في اللغات الأعجمية الأوروبية - أي في اللغات الإندوجرمانية - وليس في اللغات السامية. وليس هذا بالفارق الضئيل الذي لا يعتد به، بل على العكس من ذلك أعتقد أنه صدع عظيم يحفزنا إلى القول بأن أسماء الحيوان والنبات إن كانت عالمية في اللغات الإندوجرمانية، فإنها من حيث اللغات السامية ليست إلا أسماء غريبة لا تمت إليها بسبب من الأسباب على إطلاق القول.
ومما يؤسف له الأسف كله أن أكثر الذين يتعلمون تعليما حديثا بل قل جلهم لا يعرفون من دقائق لغتهم شيئا، فضلا عن أنهم بعيدون عن معرفة طرف من أصول تطور اللغات، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى العجز عن التفريق بين أوليات هي من البساطة بحيث يخدش علمك أن تناقش فيها؛ فقد قال لي أحدهم يوما: «كيف نترجم الأسماء الاصطلاحية وقد أصبحت حروفا عالمية؟» ومضى يقول: هل يسوغ لي أن أترجم اسمي فأقول: كمبليت فيكتور
complete victor
بدلا من «كامل منصور» إذا عرض ذكره في عبارة إنجليزية؟ ذلك لأنه لم يفرق بين اسم العلم واسم الجنس، فلما سألته: «ما اسم الأسد الذي في الغابة؟» قال: «أسد.» وما اسم الأسد الذي في حديقة الحيوان؟ قال: أسد. فقلت له: «إذن فكلهم أسود» قال: «نعم.» قلت: «إذن فالأسد اسم جنس يجمع جميع الآساد، أما اسم العلم فيدل على ذات معينة أو فرد معين كمحمد وعلي ويوحنا وغاندي، وهذا لا مشاحة فيه، ولا يتغير بتغير اللغة التي يستعمل فيها.» والمصيبة أنه لم يقتنع بعد ذاك أيضا، ومضى يقول: «الأسماء الاصطلاحية أسماء عالمية.» كذلك الذي تمثله الكاتب «ولز» في قصة «صانع المعجزات» المشهورة، وهو الذي طاف الدنيا بخياله في جلسة واحدة بعد أن لعبت برأسه الخمر، وكان ممن ينكرون المعجزات، وفي صحوة ما فزع قائلا: «كلا، لا توجد معجزات.»
أضف إلى ذلك أن جهادنا في سبيل اللغة العربية ينبغي أن يتجه متجها غايته أن تصبح هذه اللغة قادرة على الاستقلال بمصطلحاتها العلمية والفنية والأدبية. وعلى الجملة تصبح لغة العلم ولغة الأدب ولغة الفن في مدارسنا وفي معاهدنا، بحيث نستطيع أن نؤدي بها أغراض المعرفة من غير استعانة بلغة أخرى. ولنفرض مثلا أننا أردنا أن ندخل طرفا من علم المواليد في كليات الأزهر، فهل يكون ذلك مستطاعا من غير أن تكون اللغة العربية تامة القدرة على أداء المعاني والأسماء الضرورية لدرس هذا العلم الكبير أو طرف منه في وسط لا علاقة له بغير اللغة العربية؟ وكيف تصبح اللغة العربية وافية بمطالب العلوم والفنون ما لم تكن تامة الوسائل لأداء أغراض العلم لطلاب لا يعرفون غير العربية؟ وهل من المستطاع بعد هذا أن ندرس هذا العلم ونحشو العبارات العربية الصريحة بألفاظ يونانية ولاتينية لا ينطقها أهلها الأصليون - في بعض الأحيان - إلا بصعوبة بينة؟ وليجرب معي بعض حضرات علماء الأزهر وطلابه قراءة الجمل الآتية:
Unknown page