Tahrir Wa Tanwir
التحرير والتنوير
Publisher
الدار التونسية للنشر
Publisher Location
تونس
وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانًا يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ الْوَقْفُ فِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي «أُرْجُوزَتِهِ»، وَلَكِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَكِيدٍ حَسَنٍ وَدُونَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَبَعْضُهُمُ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْكَلَامِ وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَطَلَّبُ الْمَعْنَى الْوَقْفَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَعْنَى سَكْتًا وَهُوَ قَطْعُ الصَّوْتِ حِصَّةً أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ قَطْعِهِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَاضِحَةٌ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ حَارِسٌ مِنَ الْفَهْمِ الْمُخْطِئِ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: ١] لَوْ وَقَفَ الْقَارِئُ عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تَحْذِيرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَكَيْفَ يَخْطُرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: رَبِّكُمْ فَهَلْ يُحَذَّرُ أَحَدٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: ٢٧] فَإِنَّ كَلِمَةَ بَناها هِيَ مُنْتَهَى الْآيَةِ وَالْوَقْفُ عِنْدَ أَمِ السَّماءُ وَلَكِنْ لَوْ وَصَلَ الْقَارِئُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَكُونَ بَناها مِنْ جُمْلَةِ أَمِ السَّماءُ لِأَنَّ مُعَادِلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا.
عَلَى أَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْوَقْفِ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِتَعَدُّدِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى مَعَ اتِّحَادِ الْكَلِمَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيرًا [الْإِنْسَان: ١٥، ١٦] فَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الْأَوَّلُ كَانَ قَوارِيرَا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ قَوارِيرَا، وَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى التَّرْتِيبَ وَالتَّصْنِيفَ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأَ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا، وَحَضَرُوا صَفًّا صَفًّا، وَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ فِضَّةٍ عَائِد إِلَى قَوْلِهِ: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ.
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُرَادًا مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَإِعْجَازُ الْجَاحِدِينَ بِهِ وَكَانَ قَدْ نَزَلَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، كَانَ فَهْمُ مَعَانِيهِ مَفْرُوغًا مِنْ حُصُولِهِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا التَّحَدِّي بِعَجْزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَأَمْرٌ يَرْتَبِطُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَوِي فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ بَلْ خَاصَّةُ بُلَغَائِهِمْ مِنْ خُطَبَاءَ وَشُعَرَاءَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْإِعْجَازِ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ مِنْ فَنِّ الْبَدِيعِ، وَمِنْ ذَلِكَ فَوَاصِلُ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ شِبْهُ قوافي الشّعْر وأسجاع النَّثْرِ، وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فَكَانَ عَدَمُ الْوَقْفِ عَلَيْهَا تَفْرِيطًا فِي الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
1 / 83