Al-Taḥrīr waʾl-Tanwīr
التحرير والتنوير
Publisher
الدار التونسية للنشر
Publisher Location
تونس
الْكَافُ فِيهِ لِلتَّشْبِيهِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، وَاللَّامُ فِي (النَّاسِ) لِلْجِنْسِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ عَدَا الْمُخَاطَبِينَ، كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ فِي الْإِغْرَاءِ بِالْفِعْلِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ أَنْ تُسْرِعَ إِلَى التَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَسْبِقُهَا فِي الْأَمْرِ، فَلِذَلِكَ يَأْتُونَ بِهَاتِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَقَامِ الْإِغْرَاءِ أَوِ التَّسْلِيَةِ أَوِ الِائْتِسَاءِ، قَالَ عَمْرُو ابْنُ الْبَرَّاقَةِ النِّهْمِيُّ (١):
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وَقَوْلُهُ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ، قصدُوا مِنْهُ التبري مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَجَعَلُوا الْإِيمَانَ الْمُتَبَرَّأَ مِنْهُ شَبِيهًا بِإِيمَانِ السُّفَهَاءِ تَشْنِيعًا لَهُ وَتَعْرِيضًا بِالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ سَفَاهَةُ عُقُولِهِمْ، وَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ كَما آمَنَ النَّاسُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالنَّاسِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالسَّفَاهَةِ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَقِلَّةُ ضَبْطِهِ لِلْأُمُورِ قَالَ السَّمَوْأَلُ:
نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ
وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفَاهَةَ عَلَى أَفَنِ الرَّأْيِ وَضَعْفِهِ، وَتُطْلِقُهَا عَلَى سُوءِ التَّدْبِيرِ لِلْمَالِ.
قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: ٥] وَقَالَ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا [الْبَقَرَة: ٢٨٢] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ ضَعْفِ الرَّأْيِ. وَوَصْفُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهَةِ بُهْتَانٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا لِخِفَّةٍ فِي عُقُولِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَحْقِيرِهِمْ، كَيْفَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ سَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَنْ يَرْمُوا المصلحين بالمذمات يهتانا وَوَقَاحَةً لِيُلْهُوهُمْ عَنْ تَتَبُّعِ مَفَاسِدِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلٌ
وَلَيْسَ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الزِّنْدِيقِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ وَعُرِفَتْ زَنْدَقَتُهُ إِثْبَاتًا، وَلَا نَفْيًا لِأَنَّ الْقَائِلِينَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ هُمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ أَوْ خَاصَّتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ لَمْ يُفْشُوا أَمْرَهُمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ لِلرَّسُولِ بِوَجْهٍ مُعْتَادٍ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَطْلَعَُ
(١) بنُون مَكْسُورَة وَسُكُون الْهَاء نِسْبَة إِلَى نهم: بطن من هَمدَان.
1 / 287