101

Tahrir Wa Tanwir

التحرير والتنوير

Publisher

الدار التونسية للنشر

Publisher Location

تونس

الْحَرَمَيْنِ وَعَلَيْهِ الْجَاحِظُ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «الْمَوَاقِفِ»، فَالتَّعْلِيلُ لِعَجْزِ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ بِأَنَّهُ بُلُوغُ الْقُرْآنِ فِي دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مَبْلَغًا تَعْجِزُ قُدْرَةُ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَعْتَمِدُهُ وَنَسِيرُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ. وَقَدْ بَدَا لِي دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ بَقَاءُ الْآيَاتِ الَّتِي نُسِخَ حُكْمُهَا وَبَقِيَتْ مَتْلُوَّةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمَكْتُوبَةً فِي الْمَصَاحِفِ فَإِنَّهَا لَمَّا نُسِخَ حُكْمُهَا لَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِبَقَاءِ تِلَاوَتِهَا وَكَتْبِهَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مَا فِي مِقْدَارِ مَجْمُوعِهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ يَلْتَئِمُ مِنْهَا مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مُتَحَدًّى بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا مِثَالُ ذَلِكَ آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً دُونَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ مَا مَرْجِعُهُ إِلَى مَجْمُوعِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَصَوْغِهِ بِسَبَبِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَ فِيهِ مِنْ فَوَاتِحِ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمِهِ، وَانْتِقَالِ الْأَغْرَاضِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ، وَفُنُونِ الْفَصْلِ، وَالْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ، وَالِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَقَدْ جَعَلَ شَرَفُ الدِّينِ الطِّيبِيُّ (١) هَذَا هُوَ الْوَجْهَ لِإِيقَاعِ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ تَفْصِيلُ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ لَا يَحْصُرُهُ الْمُتَأَمِّلُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَضْبُطَ مَعَاقِدَهَا الَّتِي هِيَ مِلَاكُهَا، فَنَرَى مِلَاكَ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ رَاجِعًا إِلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْجِهَةُ الْأُولَى: بُلُوغُهُ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْبَلِيغُ مِنْ حُصُولِ كَيْفِيَّاتٍ فِي نَظْمِهِ مُفِيدَةٍ مَعَانِيَ دَقِيقَةً وَنُكَتًا مِنْ أَغْرَاضِ الْخَاصَّةِ مِنْ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ أَصْلُ وَضْعِ اللُّغَةِ، بِحَيْثُ يَكْثُرُ فِيهِ ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُدَانِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَبْدَعَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَفَانِينِ التَّصَرُّفِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَلكنه غير خارح عَمَّا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْحِكَمِيَّةِ وَالْإِشَارَاتِ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ مِمَّا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي عُصُورٍ بَعْدَهُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ عُلَمَائِنَا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ.

(١) اسْمه على الْأَصَح الْحُسَيْن، وَقيل: الْحسن بن مُحَمَّد الطَّيِّبِيّ- بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء-، الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة ٧٤٣ هـ.

1 / 104