Tafsir Al-Muntasir Al-Kattani
تفسير المنتصر الكتاني
Genres
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)
قال الله ﵎: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:١٦ - ١٧].
كنا مع زكريا ﵇ ومع ابنه يحيى حين استجاب الله دعاء الوالد على كبر سنه وعقر زوجته، ورزقه الله الولد كما طلبه، فكان ذلك من علامات قدرة الله في مخالفة العادة والإتيان بكل ما لا يخطر على بال، ولا يقدر على ذلك إلا الله جل وعلا.
أما قصة عيسى فقد قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ [مريم:١٦] أي: اذكر يا محمد! في القرآن مريم، ومريم قد مضت قصتها وتحرير خدمتها لبيت الله عندما ولدتها أمها وقالت: إنها نذرت ما في بطنها محررًا للخدمة وللعبادة ولتنظيف بيت الله، ولكنها عندما ولدتها بنتًا أخذت تتحسر وتقول: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران:٣٦].
فأم مريم جدة عيسى دعت لابنتها ولحفيدها ولد مريم بأن يقيه الله، وبأن يحفظه من نفث الشيطان ووسواسه وإيذائه لبني آدم، فاستجاب الله دعاءها وحقق لها رغبتها، فكانت مريم من القانتات العابدات الصالحات، وآتاها الله ماطلبت حسب رغبتها ورجائها في ربها.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم:١٦] أي: اذكر يا محمد! ما أنزل الله عليك في كتابه الموحى إليك من قصة مريم عندما انتبذت وابتعدت وانفردت عن قومها في مكان شرقي عن بلد أهلها، وعن مكان تجمعهم وتكتلهم، فاذكر ذلك يا محمد! واتبع ما يتلى عليك عن الأنبياء السابقين من فضائل ومزايا ومحاسن.
قال تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ [مريم:١٧].
أي: عندما اختلت دونهم وابتعدت عنهم واتخذت مكانًا تخلو فيه لعبادة ربها، وجعلت بينها وبين قومها حجابًا من ثوب أو من حائط، أو حجاب البعد عنهم فلا تجالسهم ولا تخوض في خوضهم ولا تشتغل بفسادهم، وإنما هي العبادة لله وحده قائمة راكعة ساجدة.
قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:١٧]، فعندما كانت مريم في خلوتها لعبادة ربها أرسل الله إليها شابًا جميلًا أمرد فدخل عليها، فإذا بها تفزع وتنزعج وأصبحت في غاية الهلع، فقالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا﴾ [مريم:١٨] أي: يا هذا الذي دخلت علي خلوتي دون إذن مني ولا سابق حرمة أو صلة، لست من محارمي فكيف تبيح لنفسك أن تدخل علي خلوتي وأنا أنثى وأنت ذكر؟ وكان الذي دخل عليها هو روح الله جبريل ﵇ جاء رسولًا من الله إليها، قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:١٧].
أرسل إليها جبريل بالبشرى وبالأمر الغريب العجيب الذي لم تكن تتوقعه، أرسله إليها بما لم تطلبه ولم تتخذ له سبيلًا ولا طريقًا، فهي ليست كخالتها عقيمًا، ولم تتزوج ولم تتشوق إلى ذلك، ومع ذلك رأت هذا الشاب الجميل الأمرد يدخل عليها منتهكًا خلوتها وحجابها.
فجبريل هو روح الله كما سماه الله، فتمثل لها في صورة بشرٍ سوي تام التقاطيع والحواس، جميل الشكل كامل القامة، وإذا بها عندما رأته خافت وبادرته بالتعوذ بالله منه، فقالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا﴾ [مريم:١٨] أي: أتحصن وأتوسل وأستغيث بالله وأجعله مرجعي ومآلي أن يحفظني منك ومما يمكن أن يحصل منك من سوء وشر، فظنته جاء لسوء، أي: ظنته جاء للفاحشة فأخذت تتعوذ بالرحمن منه وتقول: (إِنْ كُنتَ تَقِيًّا) أي: إن كنت ممن يقبل التعوذ والرجاء، وإن كنت صالحًا تؤمن بالله وتبتعد عن الفواحش وعن السوء وعن البلايا.
قالوا: فعندما سمع جبريل ذلك التعوذ من هذه العابدة الصالحة القانتة اهتز اهتزازًا ارتجت له الأرض حتى عاد لصفته الملائكية، ثم أكد لـ مريم أنه ليس ببشر، فلا خوف من ذلك، والملائكة عباد الله المعصومون ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:٦]، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون، ولا يلدون ولا يتوالدون من باب أولى، فلما اطمأنت أخذت تعجب بعد ذلك: كيف ستلد وليس لها زوج، ولم تكن بغيًا، أي: زانية في يوم من الأيام؟
21 / 2