Tafsir Al-Muntasir Al-Kattani
تفسير المنتصر الكتاني
Genres
تفسير سورة الكهف [١ - ٨]
يحمد الله تعالى نفسه في فاتحة سورة الكهف ذاكرًا في معرض ذلك منته على عباده بإنزال الكتاب على رسوله محمد ﷺ، يبشر به المؤمنين وينذر به الكافرين المشركين على دعواهم اتخاذ الله الولد، ومبينًا تعالى حال نبيه الرحيم بأمته، حيث كاد أن يهلك نفسه أسفًا عليهم لإعراضهم عن اتباعه.
1 / 1
نسبة سورة الكهف وفضلها وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه وبركاته على سيدنا محمد سيد العرب والعجم، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، أما بعد: فيقول الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف:١ - ٣].
سورة الكهف سورة مكية، فيها مائة آية وعشر آيات، وقد نزلت على نبينا صلوات الله وسلامه عليه بمكة المكرمة.
وقد ورد في تلاوتها وقراءتها يوم الجمعة أجر وثواب، وورد أن من قرأ عشر آيات من أولها، وعشر آياتها من آخرها، لا يضره الدجال، وورد أن قراءتها تنزل معها السكينة من السماء.
وورد أن من قرأها يوم الجمعة حفظ من الدجال، ويؤجر ويثاب بتكفير سيئاته من الجمعة إلى الجمعة.
وسبب نزول هذه السورة أن كفار مكة أرسلوا إلى علماء يهود في المدينة فقالوا لهم: أنتم أهل كتاب، ومحمد يزعم أنه أوحي إليه بكتاب، فأخبرونا عنه، فقال لهم اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن هو أجابكم عنها فهو نبي، وإن لم يجبكم فهو متقول، اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمن الأول، واسألوه عن رجل طاف المشارق والمغارب، واسألوه عن الروح.
فعادوا فاجتمعوا بالنبي عليه الصلاة السلام فقالوا: يا محمد! إنا سائلون أسئلة إن أنت أحسنت الجواب عنها علمنا أنك نبي، وإن لم تجب فأنت متقول، ما قصة فتية ذهبوا في الزمن الأول؟ وأخبرنا عن رجل طاف المشارق والمغارب؟ وما الروح؟ فقال لهم: غدًا أجيبكم.
وإذا بالغد يأتي، ثم يأتي اليوم الثاني والثالث إلى أن مضى خمسة عشر يومًا، ولم يأته الوحي بجواب هؤلاء، فانزعج ﷺ جدًا، وأخذ الكفار يقولون: ها نحن سألنا محمدًا فافتضح عندنا ولم يحسن الجواب.
وفي اليوم الخامس عشر جاءه جبريل بالوحي، وعاتبه ربه في قوله: أجيبكم غدًا، ولم يقل: إن شاء الله، وكان قد نسيها ﷺ، وذاك قوله تعالى في السورة: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف:٢٣ - ٢٤].
ثم تداركه الله بلطفه ورحمته فأوحى إليه بالجواب عن الفتية وعن الرجل الطواف، وأخبره بجواب سؤالهم عن الروح في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٨٥].
فكان الجواب عن الروح أنه لا جواب، وأن علم الروح من أمر الله تعالى؛ لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وجاء الجواب في سورة الكهف عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر الغابر، وعن قصة الرجل الذي طاف الآفاق.
1 / 2
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)
يقول تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف:١].
يحمد الله ﷻ نفسه، وقد ابتدأ تعالى الخلق بالحمد، وأنهاه بالحمد، وافتتح كتابه القرآن الكريم بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، وختم أمر الجنة بقوله تعالى عن أهلها: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس:١٠].
وابتدأ هاتين القصتين بحمد نفسه ﷻ، فله الحمد كله، وإليه يرجع الحمد كله، وإذا حمدنا زيدًا من الناس أو عمرًا فإنما نحمده ظاهرًا ومجازًا، وإنما الحمد لله الذي شرح قلب هذا الذي عمل عملًا يخدمك به، أو يقدم خدمة للناس، أو للإسلام، أو في أي شيء كان، فالحمد الخالص الكامل لله، فنحمده على أن هدانا للإسلام، ونحمده على أن وفقنا لاتباع نبيه عليه الصلاة السلام، ونحمده على أن عافانا في أبداننا وأرواحنا، ونحمده على أن أكرمنا بأن أغنانا عن الناس، فلم يُرق ماء وجوهنا لأحد سواه، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٤]، فالحمد لا ينقطع، والنعم لا تنقطع، وبالحمد والشكر تزداد النعم، والكفران يسلبها.
فالله تعالى هنا يحمد نفسه ويعلمنا أن نحمده وأن نشكره، وأن نؤدي الحق لأهله، فيقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَاب﴾ [الكهف:١].
وعبده هنا هو محمد سيد الخلائق، سيد الأولين والآخرين، خاتم الأنبياء والرسل، عليه صلوات الله وسلامه.
فالله يحمد نفسه، ويعلمنا أن نحمده على أن أنزل هذا الكتاب المهيمن على كل الكتب، الجامع لكل ما مضى من خيرات وافرات، وهداية دائمة، وصلاح في الدنيا والآخرة، فهو الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:٤٢]، وهو الكتاب المعجز الذي فيه خبر من قبلنا وخبر من بعدنا.
فهذا الكتاب الذي جعله الله خاتم كتبه خص به عبده وسيد عبيده محمدًا ﷺ.
والكتاب إذا أطلق يراد به القرآن الكريم، فهو كتاب جميع المسلمين، وكتاب جميع العلماء، وهو الكتاب الذي فيه ما ينفعنا معاشًا، وما ينفعنا معادًا، وهو الذي جمع كل العلوم.
وإذا أطلق الكتاب بين أهل اللغة والأدب والنحو فالمراد به كتاب سيبويه في النحو وقواعد العربية.
قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف:١]، فلم يجعله ناقصًا، ولم يجعله مخالفًا، ولم يجعله غير معجز، ولم يجعل فيه تناقضا.
والعوج يكون في المحسوسات والمعاني، يقال: فلان أعوج الخلق، أي: فيه اعوجاج عن الحق، واعوجاج عن الطريق المستقيم، ويقال: البناء فيه عوج، أي: فيه اعوجاج في هندسته وفي نظامه.
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر:٢٨]، أي: فلا نقص فيه، ولا شين، ولا تناقض.
1 / 3
تفسير قوله تعالى: (قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه)
قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا﴾ [الكهف:١ - ٢].
فهو القيم والقائم والمهيمن على ما سبقه من كتب سماوية، والقيم على كل كتب الناس وعلومهم، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل.
قال تعالى: ﴿قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف:٢].
أنزل الله هذا القرآن القيم المهيمن المستقيم الكامل الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:٤٢] على البشير النذير ليتخذه سيدنا رسول الله ﷺ أداة في الخطابة وفي الدعوة وفي العلم، وفي مخاطبة الأعداء وفي مخاطبة الأنصار، وفي دعوة الناس إلى الحق والهدى والنور.
وقوله تعالى: ﴿لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف:٢] أي: لينذر الناس الذين لم يؤمنوا وأصروا على الشرك والكفر البأس الشديد، والغضب الشديد، والقوة الشديدة، والعذاب من الله والطرد من الرحمة والخلود في النار، إن هم أصروا على الكفر، وأبوا إلا الشرك، وحادوا عن الإيمان والتوحيد.
وقوله تعالى: ﴿لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ [الكهف:٢] أي: من لدن الله، ومن عند الله، لا من عند محمد ﷺ ولا من عند أحد من الخلق، فالله عندما يريد أن ينزل بأسه بالناس يسلط رسله على من يشاء من عباده المشركين والكافرين، وقد سلط نبيه ﷺ على الكفار والمشركين من العرب والفرس والروم، إلى أن دانوا لله، وذلوا للحق، وقالوا كلمة التوحيد، وحادوا عن الشرك، ومن لم يستجيبوا ذهبوا بين شريد وطريد وقتيل، وما عند الله أشد وأنكى.
فهذا البأس وهذه النذارة الشديدة وهذا التخويف بالعذاب هو من لدن الله، ولكن الله يسلط عباده بأمره وببأسه على من يشاء من الكافرين الجاحدين.
قال تعالى: ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الكهف:٢].
أي: يبشر الذين آمنوا بالله واحدًا، وبمحمد نبيًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة، فهؤلاء المؤمنون ضموا إلى الإيمان بالقلب العمل بالجوارح، فقاموا بالأركان الخمسة من قول الشهادتين والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، كما تحلوا بالأخلاق الفاضلة، وتخلوا عن الأخلاق الرذيلة السافلة.
فهؤلاء المؤمنون يبشر منهم من مضى، ويبشر من يأتي، وهي بشرى قائمة إلى يوم القيامة بأن من آمن بالله وبرسول الله، وعمل صالحًا كان له الأجر الحسن، والأجر هنا هو الجنة.
قال تعالى: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف:٣] أي: مقيمين خالدين أبد الآباد.
1 / 4
تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا)
قال تعالى: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [الكهف:٤].
فالإنذار بالسوء هنا في أعظم أنواع الكفر، وهو الشرك بالله، بزعم أن لله ولدا.
والذين قالوا ذلك هم العرب، قالوا: إن الملائكة بنات الله، وكذلك اليهود، حيث قالوا: عزير ابن الله، وكذلك النصارى حيث قالوا: عيسى ابن الله، ومريم صاحبته، تعالى الله عن كل هذا الإفك علوًا كبيرا.
قال تعالى: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ﴾ [الكهف:٤ - ٥].
فليس لهم علم ولا دليل ولا برهان ولا حجة ولا سلطان من الله على أن لله ولدًا، فلم ينزل بذلك كتاب، ولم ير أحد هذا الولد، بل إنهم لم يتفقوا على هذا الولد، فقالوا: هو عزير، وقالوا: الملائكة، وقالوا: عيسى.
فمن قال: إن الله اتخذ ولدًا فقد قال كذبًا وبهتانًا على الله، ولم يأت بذلك برهان ولا دليل.
1 / 5
تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم ولا لآبائهم)
قال تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ﴾ [الكهف:٥].
فهم يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٣].
فلقد كانوا هم وآباؤهم ضالين مضلين، كذبة على الله مفترين.
قال تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف:٥].
(كلمة) تمييز، أي: كبرت هذه الكلمة وهذه المقالة، وهي أن الله اتخذ ولدًا، وأن الله اتخذ صاحبة أمًا لهذا الولد، فهذه الكلمة عظيمة تكاد السموات أن تتفطر منها.
فهؤلاء لم يقتصروا على الكذب على رسول الله، وعلى أصحاب رسول الله، وعلى الصالحين، بل كذبوا على الخالق ﷻ بما لم يأت به سلطان ولا دليل ولا برهان.
يقول تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف:٥]، والأفواه: جمع (فو)، وهو من الأسماء الخمسة، فيرفع بالواو، وينصب بالألف، ويجر بالياء.
قال تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف:٥].
فلم يقولوا ما قالوا وما نطقوا إلا بالكذب وبالبهتان وبالافتراء وبما ليس لهم عليه دليل ولا برهان، فكل ذلك من إفكهم ومخترعاتهم التي خلت عن الدليل والبرهان.
1 / 6
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)
قال تعالى يخاطب رسوله ﷺ: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف:٦].
فما ستقصه على قومك مما سألوك عنه ووجههم إليه يهود المدينة سيكذبونك فيه، ولن يصدقوك، فقد سألوك وأجبت، فما آمنوا ولا صدقوا، فلم يسألوك رغبة في العلم، ولا سعيًا في معرفة الحقيقة، وما ذلك إلا التحدي، وما هو إلا التعجيز، وما هو إلا العناد، فأرح نفسك، ولا تهلكها ولا تتعبها.
يقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾ [الكهف:٦] أي: مهلك نفسك، وقاض عليها، ومميتها؛ حرصًا على قومك وهدايتهم، وأسفًا على قومك حيث لم يؤمنوا بالحق مع الأدلة القاطعة التي تأتيهم بها مساء وصباحا، وليلًا ونهارا، فما تلك مهمتك، ولم تطالب بذلك، وإنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.
فنبينا ﵊ هو كما وصفه ربه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة:١٢٨].
فكان عزيزًا عليه وصعبًا عنت قومه، وعناد قومه، وإصرارهم على الكفر، بل عنت جميع الناس، فقد كان حريصًا على هدايتهم، فالله يقول له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف:٦].
فلعلك مهلك نفسك أسفًا وحزنًا عليهم وموجعها ومؤلمها؛ لأنهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا، وليس عليك هداهم، فمن سبق في علم الله ضلاله وكفره فسيبقى كذلك، ولن تفيده موعظة، ولن تفيده دعوة، ولن تفيده معجزة.
1 / 7
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم)
قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:٧].
يقول الله ﷻ: إنه جعل ما على الأرض زينة لها؛ ليختبر بها عباده، وليختبر بها الناس، وليختبر بها الجن والإنس، فزين الأرض بما فيها من أشجار ومياه وثمار، وأنواع من الحيوانات التي تمشي على أربع، والتي تطير في الهواء، والتي تعيش في البحار، فكل ذلك جعله الله للإنسان ابتلاء من الله واختبارا، ليظهر الذي يرى ذلك، فيعمل بمقتضاه، ويشكر الله عليه، ولا يتخذ ذلك نكرانًا وجحودًا وكفرانا.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:٧].
فما على الأرض من جبال راسيات، وبحار متلاطمات، ونسيم وخضرة زين الله به الأرض وجملها؛ ليبلو عباده أيهم أحسن عملا، فيظهر الذي سيكون أحسن عملًا بالطاعة وبالتوحيد، وبالامتثال لأمر الله، ولأمر رسوله.
1 / 8
تفسير قوله تعالى: (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزًا)
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف:٨].
فهذه الدنيا التي زينت وزخرفت سيأتي عليها يوم وكأن لم تكن، فإذا بالأرض تصبح صعيدًا جرزًا، أي: أرضًا قاحلة، لا شجر فيها ولا نبات، ولا طائر يطير، ولا دابة تسير، ولا إنسان يتحرك، إذ يذهب الله بكل ما فيها وما عليها، بعد أن ظن الناس أن هذه الأرض التي زينوها وتعبوا فيها منذ آلاف السنين قديمًا وحديثا، وأوصلوها إلى ما لم تكن عليه يوما لن تزول، وإذا بكل ذلك يدمر، فتصبح صعيدًا زلقا وجرزًا لا ينبت، فليس فيها نبات ولا زهر، ولا نعيم، ولا ما يشرب ولا ما يؤكل، وتجف البحار والأنهار، وتنقطع العيون.
وهذه بداية الفناء، وإلا فبعد ذلك لا تبقى الأرض نفسها ولا السماء، قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:٨٨]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
1 / 9
تفسير سورة الكهف [٩ - ١١]
لقد كان أصحاب الكهف الذي أخبر الله تعالى عن قصتهم فتية شبابًا، فروا بدينهم من قوم مشركين، فجعلهم الله تعالى آية على البعث والنشور، واتضح من قصتهم دور الشباب الفاعل في التغيير، للحماسة الجارية في أبدانهم، ولبعدهم عما يقعدهم عن العمل من شواغل الحياة، وإدراك هذا الأمر يرفد الدعوة الإسلامية بطاقات عظيمة.
2 / 1
تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا)
2 / 2
آيات الله وقدرته العجيبة
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف:٩].
لقد قال اليهود لسفيري قريش في قلة: لقد كانت عجائب وغرائب لشباب كانوا في القرون الأولى، فذهبوا ولم يعرف مكانهم، ثم بعد قرون ظهروا وبرزوا وكان من شأنهم وغرائبهم وعجائبهم كذا، فأنزل الله تعالى خبرهم بعد أن مهد للقصة بحمده تعالى وبيان أن القرآن حق، وأنه الذي أوحى به وأنزله على عبده، فجاء به نذيرًا للمشركين، وبشيرًا للمؤمنين، وبيانًا أن الدنيا بما فيها من زينة وزخرف لم تكن إلا ابتلاء، ولم تكن إلا اختبارًا، كما يختبر الطالب في مدرسة ليعلم أيرسب أم ينجح، والعبرة بالمستقر في الآخرة، فإما إلى سعير وإما إلى جنة.
قال تعالى لنبيه: ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ [الكهف:٩] أتظن كما ظن هؤلاء ﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف:٩].
أيظنون أن هؤلاء الفتية من أصحاب الكهف والرقيم، كانوا من آياتنا عجبًا، فأعجب من أمر هؤلاء خلقك -أيها الإنسان- من عدم، ثم إماتتك ثم إعادتك، وأعظم من قصة أهل الكهف خلق السموات والأرض وما بينهما، وأعجب منها الدقائق والغرائب والعجائب في هذا الكون المنظم الذي لا يزيد فيه الليل والنهار عن أربع وعشرين ساعة ثانيةً واحدةً، ولا يزيد فيه أجل إنسان ولا ينقص منه.
فالدنيا كلها من بدايتها إلى نهايتها لها أجل مسمى عند الله، لا تزيد ولا تنقص، ففصول العام الأربعة لا تزيد ثانية ولا تنقص، فهذا الكون المنظم، من نظمه؟! ومن دبره؟! ومن خلقه؟! إنه الله ﷻ.
وماذا ستكون الغرابة في شباب أميتوا دهرًا ثم بعثوا بجانب إعادتكم يوم القيامة بعد آلاف من السنين؟! فقصة البعث أعجب وأغرب.
يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ [الكهف:٩].
أي: أتظن يا رسولنا، والخطاب له والمقصود أولئك الذين أتوا متآمرين متكبرين من مشركي مكة إلى يهود المدينة، فإن كان قد جاءهم بالقصة الغريبة العجيبة من شأن أولئك الفتية فهو نبي الله حقًا، ولكن إذا كان هؤلاء يريدون الإغراب، ويريدون الإعجاب.
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف:٩] ولا عجب ولا غرابة في قدرة الله، فهو القادر على كل شيء، يفعل ما يشاء كيف يشاء متى شاء، ولا يعجزه شيء.
فهنا جاء الجواب بعد انتظار نبينا ﷺ خمسة عشر يومًا تأديبًا له من الله؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله.
وربما انزعج لقول الكفار في تأخر الوحي عنه، ولكن الله لم يخيب عبده، ولم يخيب نبيه، ولكنه أرجأه أيامًا لكيلا يعود مرة أخرى إلى ترك الاستثناء بمشيئة الله تعالى، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ﴾ [الإنسان:٣٠].
فهو أدب له، وهو أدب لكل إنسان، فلا تقل: سأفعل غدًا؛ لأن الغد لا تملكه، فكيف تتكلم عن الغد بأنك ستفعل فيه وستقول وأنت لا تعلم هل ستعيش غدًا أو تموت، وهل ستملك العمل إن عشت أم لا، فإذا كان الأمر لله، فعليك أن تستسلم، وأن تجعل المشيئة له، فإن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
2 / 3
بيان معنى الكهف والرقيم
والكهف: هو الغار المتسع، ذو العمق الداخلي، بخلاف الغار، فالغار يكون صغيرًا.
والرقيم فيه أقوال كثيرة، حتى إن عبد الله بن عباس قال: علمت القرآن من بدايته إلى نهايته، ولم أعلم ما الرقيم.
وإن كان بعد ذلك فسر الرقيم، فقال: لا أدري أهو كتاب أم مكان.
وقد ورد في تفسيره أقوال عن الصحابة والتابعين وأئمة التفسير، فقد قال بعضهم: الرقيم قرية، وهي قرية أهل الكهف.
ولكن سياق الآية لا يدل على ذلك، فالرقيم هو حجر أو رصاص جعل على باب الكهف.
2 / 4
ذكر ما روي من خبر أهل الكهف
ويروى في الأخبار أن هؤلاء الفتية كانوا في عصر دقيانوس، وقد زعم بعضهم أنه كان في أرض العراق، وزعم بعضهم أنه كان في أرض فلسطين، والأسماء لا عبر فيها ولا ينبني عليها عمل، ولا يمكن القطع بشيء من ذلك؛ بل قد ذكرت أسماء هؤلاء الثمانية الذين كانوا في الكهف، وذكر اسم كلبهم كذلك، واختلفوا في الأسماء، ولا حاجة لهذه الأسماء؛ لأن العبرة ليست في الاسم، ولكن العبرة فيما جرى لهم، وفيما تم على أيديهم، وفي قدرة الله، وأن البعث قد حصل في الدنيا قبل الآخرة؛ ليعلم من ينكر البعث أن الله ﷻ الذي جعل البعث إلى يوم القيامة قادر على أن يجعله في الدنيا ويبتدئه في الدنيا.
فـ دقيانوس كان وثنيًا، فكان يؤتى بالناس كبارهم ثم صغارهم فيأمر بذبحهم على أصنام صنعها ويقول عنها: هي الآلهة، فكان من خالفه يذبحه من ساعته.
وكان له قرابة بأحداث صغار، ولعلهم كانوا بين الخمسة عشر والعشرين عامًا، فهؤلاء فكروا، فقالوا: كيف يصنع دقيانوس من حجر صنمًا ثم يقول للناس: هذه آلهتكم فاسجدوا لها وتقربوا إليها، واذبحوا عليها قرابينكم، وكان كل إنسان منهم يفكر هذا التفكير على حدة.
وفي يوم احتفال اجتمع الناس، فاجتمع هؤلاء الفتية، وأخذ كل شاب يكلم الآخر بما في نفسه، فتبين أنهم أنكروا الشرك وعبادة الأوثان، وقالوا: لا بد من أن يكون لهذا الكون خالق، فآمنوا بالله، واتبعوا ما سمعوا من أديان سابقة.
وقد اختلف الناس: هل كان هذا بعد إرسال عيسى أم كان قبله؟ قال ابن كثير: لو كان هذا بعد عيسى لما دل عليه علماء اليهود، فهم لا يؤمنون بعيسى، ولا يعتقدونه نبيًا، ويقذفون أمه، وكيف يدلون أهل مكة على أن يسألوا محمدًا ﵊ عن قصة فتية يؤمنون بما كفروا به؟! فذلك يدل على أن هؤلاء كانوا قبل عيسى، كانوا من الموحدين من أتباع الأنبياء السابقين.
فلما علموا الحق كفروا بالأوثان، واتخذوا مكانًا للصلاة وللعبادة، وإذا بـ دقيانوس يبلغه الخبر، فأرسل إليهم: ألستم بمؤمنين بآلهتي؟ فقالوا: لا.
وقد كان عليه شارة الملك، فأمر بإحضارهم، ثم أرجئوا إلى الغد تكرمة لقرابتهم، وقبل أن يأتي الغد فكروا طويلًا، فقال بعضهم لبعضهم: نحن غدًا إما مشركون، ونعوذ بالله من الشرك، وإما مقتولون شر قتلة، فماذا نصنع؟! فتداولوا الأمر، وكانوا سبعة، واتفق الكل على الاختباء في غار ذكروا له اسمًا، وذكروا له محلًا، وبينما هم ذاهبون إذا براع يلحق بهم فيسألهم أن يذهب معهم، فأبعدوه، فأصر، فاصطحبوه فتبعه كلبه، فأصبحوا ثمانية ومعهم كلب، فدلهم الراعي على كهف فساروا إليه، فلما دخلوه ضرب الله على آذانهم، فمنع أن يصل إليها سماع أي شيء، لأن النائم إذا كثرت عليه الأصوات أزعجته وأيقظته، والله أراد أن ينيمهم ثلاثمائة من السنين وتسعًا، فأصم آذانهم عن أن يسمعوا شيئًا.
وكانت الشمس تدخل عليهم صباحًا ومساء ولا تمسهم، فيبقى شعاعها وضوؤها، وإلا لو مستهم الشمس لأضرت بهم.
وكانوا يتحركون يمينًا وشمالًا، فالهواء يدخل، والشمس تنظف وتطهر، ولكن لا تمس الأجساد، بل تتزاور عنهم يمينًا وشمالًا في الصباح وفي المساء.
فلما أفاقوا قال بعضهم لبعض: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف:١٩]، وكان الله تعالى قد جعل عليهم في الكهف هيبة، حتى لا يكشف أمرهم قبل أوانه، فكان الناس يأتون الكهف، ومن يحاول الدخول إلى الكهف يشعر بقشعريرة ورهبة وخوف.
فلما أفاقوا أحسوا بالجوع، فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بالطعام، فلما خرج أخذ يتلفت يمينًا وشمالًا قائلًا: أهذه البلدة التي كنا نعيش فيها؟! فلقد وجد فيها شعارات الإيمان والتوحيد في الطرقات، ورأى أن الناس كلها تنظر إليه، ورأى لباسه غير لباسهم، وأن لحيته وشاربه قد طالا كثيرًا، فشعر بأن الناس ينفرون منه، ويرون عجبًا في شكله، فكان يمشي في الطريق وعيناه زائغتان، ويلتفت يمينًا وشمالًا فلا يجد في البلد من يعرفه، فأخذ يتساءل: هل هذه المدينة قريبة من مدينتي؟! لا أعرف مدينة قريبة منها، وهكذا إلى أن تجرأ بعد ذلك في عيون زائغة، وفي حركات مريبة، وفي وجه مخيف، وفي حركات غير مستقرة، فوقف أمام صاحب دكان فقدم له درهمًا فأخذ الدرهم، وبدأ يحقق النظر فيه، فالوجه غريب، واللحية طالت، وزيه غير الأزياء التي يلبس الناس، فلما أخذ الدرهم وجده قد مضى على ضربه قرون، وفيه اسم دقيانوس، فأخذ يتساءل: أين دقيانوس؟ ومتى كان دقيانوس؟ فأمسكه، وقال له: لعلك وقعت على كنز، فإما أن تدلني عليه وأما أن أبلغ بك الإمبراطور الحاكم؟! وارتعد وخاف أن يأخذه إلى دقيانوس قريبه، فيلزمه بالشرك أو يقتله، فينكشف إخوانه الذين تركهم جائعين في الكهف، ثم أخذ يطلع جيرانه في الدكاكين على هذا الدرهم، فجمع عددًا، وإذا بالكل يلتف حوله، قائلين: من أنت؟ ومن أين جئت؟ ومن أي بلد؟ فأخذ يتكلم، ثم أخذ يبكي حين شعر بأنهم موحدون، فأخذ يفرك عينيه، ليعلم أصاح هو أم نائم، وما هذه البلدة؟! فهل اختطفته الجن؟! ولم يعرف ما جرى.
فأخذوه إلى حاكم البلد، وهو يظن أنهم سيأخذونه إلى دقيانوس، فوقف أمام حاكم البلد، فوجد على الناس شارات الإسلام والإيمان، فسألوه: من أنت؟ فسمى نفسه، وأخذ يقول لهم: لا تأخذوني إلى دقيانوس، فلم يعرفوا الاسم، وسألوه عن قريبه فقال: دقيانوس، فقالوا: أنت مجنون، من أين جاءك هذا الدرهم؟! فقال: درهم -والله- لم أسرقه، ولم آخذه من أحد.
ثم قال: اذهبوا معي إلى إخواني في الكهف، وكانوا قد سمعوا قصة الكهف والرقيم، وهي أن جماعة من الشباب من الأسرة المالكة فروا بدينهم إلى الكهف، ولم يخرجوا، وأن أسماءهم كتبت على لوح من رصاص أو من حجر، ووضعت في جانب من الكهف، فذهبوا فقرءوا اللوح، فأدركوا آنذاك أن هذه معجزة وآية، ففرحوا بأن الله أحياهم ليعلموا أنهم على دين حق، وأن البعث والنشور المنتظر حق، أدركوا ذلك وهم أحياء، فبادروا واتصلوا بملكهم، فجاء مسرعًا، فرأى الرقيم، فدخلوا عليهم، فلما دخلوا عليهم رعبوا، وهابوهم وفزعوا منهم، وجاء ذلك الذي خرج ليأتي بالطعام فدخل الكهف، وبعد أن تجمع الآلاف وحصلت ضجة في البلد مات أصحاب الكهف، فقالوا: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف:٢١].
فبنوا المسجد، وبقي ذكرى لوجودهم، وذكرى لإيمانهم، وذكرى لما أظهر الله من قدرته على البعث في الدنيا قبل الآخرة.
وفي سورة الكهف أيضًا ذكر قصة ذي القرنين الذي جاب الآفاق، وفيها قصة ذي الجنتين مع أخيه الذي لا جنة له، وهذه كانت زيادة في الوعظ والإرشاد والتعليم والإيمان، والبعد عن البخل، وعدم أداء الحقوق للفقير والمسكين.
2 / 5
الاهتمام بالشباب
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ [الكهف:٩].
والمراد بهم الفتية الشباب، والشباب أقرب إلى التبدل والتغير، فإذا جاء الخير كانوا إليه مسرعين، وإذا جاء الشر كانوا إليه مسرعين.
ولذا كان أول من آمن بالنبي ﵊ هم الشباب، وقلة من الكهول أسنانهم بين الثلاثين والأربعين، وكان ولاته ﷺ من الشباب، فقد أمر على مكة بعد أن فتحها عتاب بن أسيد وهو شاب، وأمر عليًا وهو شاب، وكان قادة الجيوش من الشباب، كـ أسامة بن زيد، فقد أمره ﷺ وجعله القائد العام قبيل موته وفي الجيش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وكبار القوم، وسنه سبعة عشر عامًا؛ وأما الخليفة فإنه يختار كبيرًا حكيمًا، ليس نزقًا، حتى إذا ولى الشباب كان هو الذي يكف من حدتهم، وهو الذي يعدل من سيرهم، وكان مستشارو عمر ﵁ من الشباب، فقد كان منهم عبد الله بن عباس ولم يبلغ عمره بعد عشرين عامًا.
فقد مات رسول الله ﷺ وسنه ثلاثة عشر عامًا، فأتم الخمسة عشر بخلافة أبي بكر، ثم ولي الخلافة عمر، فاتخذه مستشارًا وهو ابن خمسة عشر عامًا، إلى أن لقي الله بعد عشر سنوات من الخلافة، ولم تزد سن عبد الله بن عباس على خمسة وعشرين عامًا.
وكان عمر عليه رضوان الله يقول: إنني أستشير الشباب أبتغي بذلك حدة أذهانهم.
فالشباب معروفون بالشجاعة والإقدام، فليس هناك مال ولا جاه ولا منصب يخافون عليه، فإن دفعوا للموت ماتوا، وإن دفعوا للمغامرة غامروا، أما الشيوخ وقد تمولوا وأصبحوا آباءًا وأجدادًا، وأصبح لهم جاه وسلطان، فإنهم يخافون على أموالهم وعلى جاههم وعلى أولادهم، ولذلك قال ﵊: (الولد مجبنة مبخلة)؛ فالأولاد يحملون الإنسان على أن يكون جبانًا، وعلى أن يكون بخيلًا.
فيكون جبانا إذا أقدم، فيقول: سأموت وتبقى المرأة أرملة، ويبقى الأولاد أيتامًا، وإذا أراد أن يعطي يقول: لمن أترك أولادي؟! أأعطي الناس وأترك أولادي فقراء؟! فالشباب غالبًا يكونون مندفعين، وهذه سنة الله في الكون.
ودائمًا تجد الدعوات تنجح بين العمال والطلاب، فالطلاب والعمال غالبهم شباب، فإن كان الداعية صالحًا كانوا صالحين، وإن كان الداعية فاسدًا كانوا كذلك، ولذلك كان على الدولة أن تحفظ شبابها -طلابًا كانوا أو عمالًا- من دعاة السوء وأئمة الكفر، حتى لا يقع الشباب ضحايا الكفر والشيطان، لا لحسنة أدركوها في الدنيا، ولا لحسنة أدركوها في الآخرة.
فالنبي ﵊ ولى الشباب أعلى المناصب، ونحن نرى ابن العشرين لا يزال يقاد، فهو لا يزال مراهقًا، ونتكلم عنه على أنه لا يزال ولدًا، ولا يزال بعيدًا عن تحمل المسئولية.
وهكذا عندما يذل الله أمة ويبعدها عن الحق، وعن الطريق المستقيم، تعيش في السخط، وتعيش في الضلال، ويستعبدها عدوها عقوبة من الله وامتحانًا.
2 / 6
ذكر بعض خبر النبي ﷺ قبل النبوة
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف:٩].
وقد عاش النبي ﵊ في الغار حتى آن أوان نزول الوحي عليه، فألهمه الله أن يذهب إلى الغار وحده، ولم يكن معه جماعة، فكان يذهب إلى الغار الذي لا يزال معروفًا، وهو غار حراء، فكان يتحنث ويتعبد فيه بالفكر، ويقول في نفسه: هذه الدنيا على عظمتها أيمكن أن تكون بلا خالق؟! أيمكن أن يكون الدين ما عليه قومي، وهم يسجدون للأحجار وللأوثان، ويصنعون من التمر صنمًا ثم يجوعون فيأكلونه؟! وقد أراد مرة أن يحضر لهوهم في مكة فقال لمن كان يرعى معه: بلغنا اليوم أن هناك عرسًا واجتماعًا فارع غنمي حتى أحضر العرس فذهب ليطلع على عرس للمشركين، وإذا بالله الذي يهيئه لرسالة العالم، ولإمامة الأئمة يمنعه عن ذلك، فلم يكد يصل حتى أصيب بما أصيب به أهل الكهف، فنام إلى أن أصبح الصباح ومسه حره الشمس، وإذا بالقوم قد تفرقوا، وأعاد هذا مرة ثانية، فحفظه الله وصانه، وكان ذلك إرهاصًا لما يعد له، إلى أن نزل عليه الوحي في الغار، حيث جاءه جبريل فضمه إليه ضمة شديدة كادت أضلاعه أن تتداخل منها، وكان يقول له: اقرأ، وهو يقول: ما أنا بقارئ.
وقد اجتمعت برجل ماروني هو الآن أديب مشهور قد تجاوز التسعين، وقد ترك النصرانية وقارب الإسلام، وقد رأى رؤيا أولتها له بأنه قريب من الهداية، فاغتر وظن أنه نبي، وأخذ يدخل المغارات، ويصدر الكتب يعارض بها القرآن والتوراة والإنجيل، ويقول: يا بني آدم، يا ابن آدم، وهكذا تلاعب به الشيطان، حيث انتظر جبريل فلم يأته في الغار، وإذا به يأتيه الشيطان!
2 / 7
تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)
قال تعالى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف:١٠].
الفتية: جمع قلة، ولا يقال: فتى وفتية إلا للشباب الأحداث، ولذلك قالوا: كانت أعمارهم بين الخمسة عشر والعشرين عامًا عندما أرادوا الفرار بدينهم وبتوحيدهم، واعتزال المشركين وأهل الكفر.
ولذا قال علماؤنا: عندما تنتشر البدعة، وينتشر الكفر، ويعم الفساد في الأرض يجب على الإنسان أن يعتزل الناس، كما اعتزل الفتية قومه إلى الكهف.
يقول تعالى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾ [الكهف:١٠].
و(إذ) هنا مصدرية زمنية أي: اذكر -يا رسولنا- وأنت تسأل عن قصة أهل الكهف، اذكر هؤلاء إذ أووا إلى الكهف، أي: اتخذوه مأوى، واتخذوه معزلًا، واتخذوه مكان اختفاء عن المشركين.
قال تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ [الكهف:١٠].
أي: من عندك يا رب، لا بما نستحقه، فنحن في الكهف غرباء، لا طعام ولا شراب، ولا حراسة ولا حماية، إلا إذا شئت أنت، فارحمنا حتى لا يفتننا هؤلاء عن ديننا، وحتى لا يقهرونا، وحتى لا يقتلونا ويعذبونا، وحتى لا نضطر فنعود إلى دينهم.
قال تعالى: ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف:١٠].
أعدنا لما يصلحنا، ولما يبعدنا عن المشركين والكافرين من قومنا، ولما نحتفظ فيه بتوحيدك، ونحتفظ فيه بعبادتك.
2 / 8
تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددًا)
قال تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف:١١].
أي: ضربنا على آذانهم فأنمناهم، والنائم لا يسمع المتكلم، وإذا كثر الضجيج عنده يستيقظ، ولكن الله تعالى أصم آذانهم، فضرب عليها النوم، فلم يسمعوا ضجيجًا.
يقول تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ﴾ [الكهف:١١].
أي: أنمناهم لكي لا يسمعوا، وتركناهم يستغرقون في النوم سنين عددًا، وهي ثلاثمائة وتسع سنوات، أي: ثلاثة قرون وتسع سنوات.
2 / 9
تفسير سورة الكهف [١٢ - ١٦]
لقد ذكر تعالى قصة أهل الكهف مجملة في آيات من هذه السورة العظيمة، ثم عاد فذكر تفاصيل قصتهم العظيمة في دلالتها على التوحيد والبعث والنشور، حيث ذكر تعالى أنهم أووا إلى الكهف راجين من الله أن يؤتيهم رحمة ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا، وذكروا حال قومهم وما هم عليه من الشرك الذي لا سلطان لهم عليه ولا دليل.
3 / 1
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)
قال الله ﷻ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف:١٢].
لا نزال مع قصة أهل الكهف، حيث أنامهم الله دهرًا وزمنًا طويلا، ليكونوا مثالًا للبعث يوم النشور، وليؤمن من يؤمن، ولتقوم الحجة على من أبى إلا الكفران والجحود.
يقول الله ﷻ عن هؤلاء الفتية وقد أنامهم في الكهف سنين عددًا: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ﴾ [الكهف:١٢].
أي: ثم أيقظناهم وأقمناهم من النوم، وذلك يشعر الناس بأنهم ما ماتوا، ولا اندثروا ولا فنوا.
﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف:١٢].
ومعنى ذلك أن حزبين من الناس اختلفا في هؤلاء الفتية من أهل الكهف، كم لبثوا؟ وفي أي مكان رقدوا؟ وفي أي كهف غابوا؟ والله ﷻ هو العالم سلفًا، فبعثهم الله وأيقظهم من رقادهم، لُيعلم أي هؤلاء الذين اختلفوا أحصى وأصوب، وأيهم أعلم بالواقع بمقام هؤلاء الذين أقاموا في الكهف.
هذا ما أجمل الله به قصة هؤلاء الفتية في الكهف، وقال لنبيه ﵊، بعد أن أخبره بما سأله عنه قومه من اقتراح يهود المدينة: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف:٩ - ١٢].
ففي هذه الآي القصار أجمل الله الكلام عنهم، ولخصه، وهو أنه قد أنامهم في الكهف، وضرب على آذانهم فلم يسمعوا كلام أحد، ولم ينفذ الكلام والضجيج إلى آذانهم فيكون ذلك سببًا لإيقاظهم.
3 / 2