[15]
قوله عز وجل : { الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } ؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى الجزاء باسم الابتداء ؛ إذ كان مثله في الصورة ؛ كقوله تعالى : { وجزآء سيئة سيئة مثلها }[الشورى : 40] فسمى جزاء السيئة سيئة. وقال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه }[البقرة : 194] والثاني ليس باعتداء.
قوله تعالى : { ويمدهم في } أي يمهلهم ويتركهم في ضلالتهم يتحيرون ؛ يقال : مد في الشر ؛ ويمد في الخير ؛ وقال يونس : (المد الترك ؛ والإمداد في معنى الإعطاء). وقيل : مده وأمده بمعنى واحد. وقال الأخفش : (ويمدهم) أي يمد لهم ؛ فحذف اللام). والطغيان : مجاوزة الحد ؛ يقال : طغى الماء إذا جاوز حده ؛ وقيل لفرعون : { إنه طغى }[طه : 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال : { أنا ربكم الأعلى }[النازعات : 24].
وقرأ ابن محيصن : (ويمدهم) بضم الياء وكسر الميم ؛ وهما لغتان. إلا أن المد أكثر ما يجيئ في الشر ، قال الله تعالى : { ونمد له من العذاب مدا }[مريم : 79] ، والإمداد في الخير قال الله تعالى : { ويمددكم بأموال وبنين }[نوح : 12] ، وقال تعالى : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين }[المؤمنون : 55]. وقيل : معنى { الله يستهزىء بهم } أي يوبخهم ويغبيهم ويجهلهم. وقيل : معناه : الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس : (هو أن يطلع الله المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار ، فيقولون لهم : أتحبون أن تدخلوا الجنة ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم باب إلى الجنة ويقال لهم : ادخلوا ، فيأتون يتقلبون في النار ، فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وردوا إلى النار ؛ ويضحك المؤمنون منهم. فذلك قوله تعالى : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هاؤلاء لضالون * ومآ أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون }[المطففين : 29-34].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يؤمر بناس من المنافقين إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعد الله لأهلها من الكرامة ، نودوا أن اصرفوهم عنها ؛ فيرجعون بحسرة وندامة لم ترجع الخلائق بمثلها ؛ فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا ؟ فيقول الله تعالى : هذا الذي أردت بكم ؛ هبتم الناس ولم تهابوني ؛ أجللتم الناس ولم تجلوني ؛ كنتم تراءون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم تروني من قلوبكم ، فاليوم أذيقكم من عذابي ما حرمتكم من ثوابي ".
فإن قيل : لم أمر الله تعالى بقتال الكفار المعلنين الكفر ولم يأمر بقتال المنافقين وهم في الدرك الأسفل من النار ؛ وخالف بين أحكامهم وأحكام الكفار المظهرين الكفر وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث والأنكحة وغيرها ؟ قيل : عقوبات الدنيا ليست على قدر الإجرام ؛ وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح ؛ ولهذا أوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة ؛ والكفر أعظم من الزنا ولو تاب منه قبلت توبته. وكذلك أوجب الله على القاذف بالزنا الجلد ولم يوجبه على القاذف بالكفر ؛ وأوجب على شارب الخمر الحد ولم يوجبه على شارب الدم.
Page 21