إلى أن هذا الاتجاه - وإن يكن سببيا بغير شك - يتضاءل إلى جانب الإنجازات الإيجابية للعلم في نفس الميدان الذي ننتقد العلم من أجله؛ أعني ميدان الحياة والموت، فحين نتحدث عن الأبحاث العلمية التي تستهدف الموت، ينبغي أن نتذكر في الوقت نفسه ما صنعه العلم من أجل الحياة؛ «فعدد الأشخاص الذين قتلوا في بريطانيا خلال الأعوام الستة للحرب العالمية الثانية نتيجة للقنابل والقنابل الطائرة وصواريخ ف
2
الألمانية كان ستين ألفا، وقد فقد هؤلاء الناس - في المتوسط - نصف أعمارهم. وبقسمة بسيطة يتضح أن تأثير هذا على سكان بريطانيا البالغ عددهم خمسين مليونا معناه إنقاص متوسط العمر بنسبة تقل عن عشر الواحد في المائة؛ أي إن متوسط عمر كل فرد نقص حوالي أسبوعين. فلنضع هذا في جانب الخسارة. أما في جانب المكسب فنحن نعلم أن متوسط العمر قد زاد في إنجلترا خلال الأعوام المائة الأخيرة بمقدار عشرين عاما ... أي إن لدينا أسبوعين مقابل عشرين عاما من الحياة.»
2
على أن المغالطة هنا واضحة؛ إذ إن الأرقام لم تتناول سوى الضحايا المدنيين، وتجاهلت الضحايا العسكريين في نفس البلد، فضلا عن أن المقارنة كان يجب أن تكون بين خسائر كل الحروب التي نشبت خلال مائة عام، والتي نجمت عن التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن الأهم من ذلك أن كوارث البشرية ليست مسألة أرقام وإحصاءات، بل إن التسلح - سواء استخدم بالفعل أم ظل يهدد «الآخرين» في كل لحظة - يخلق دمارا نفسيا وخوفا مستمرا من الفناء، ويولد انحرافات نفسية وخلقية لم يعرفها العالم إلا في عصرنا هذا، ويبدد موارد الإنسان وجهده بلا طائل.
لذلك فإن هذا الجنون المدمر الذي يسيطر على عالم اليوم بفضل التسليح، قد أعطى لأعداء العلم فرصة هائلة لمهاجمته؛ إذ إن العلم هو الذي يتيح للدول المتقدمة تطوير أسلحتها؛ ومن ثم فإنهم يستنتجون من ذلك أن العلم «هو المذنب»، ولكن حقيقة الأمر هي أن العلم إذا كان هو أساس الأبحاث المؤدية إلى تطوير أسلحة الدمار، فمن المؤكد أنه خاضع لتحكم قوى أخرى خارجة عنه، هي القوى التي تخطر له وتحدد اتجاهاته، إن سلما أو حربا، وتمول أبحاثه وتوظف المشتغلين فيه، وهي القوى التي تتخذ القرار وتنفذه بعد أن يتم الكشف، وهذه القوى سياسية في المحل الأول، تتحكم في اتجاهاتها الأطماع والمصالح ولا تصدر قراراتها بعد استشارة العلماء إلا نادرا، والمثل الواضح على ذلك هو القنبلتان الذريتان الأوليان أيضا؛ فقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوها أن تجرى تجربة دولية أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقنبلة، ويطلب إلى اليابان أن تستلم على هذا الأساس، ولكن الحاكم السياسي - وهو الرئيس «ترومان» في ذلك الوقت - كان له رأي آخر، وحين اتخذ قراره باستخدام القنبلتين ضد أهداف مدنية كان يسير في اتجاه مضاد تماما لما يريده العلماء.
إن العلم لا يحمل في ذاته اتجاهات عدوانية، وإذا كان يعادي شيئا فهذا الشيء هو الجهل والشعور بالعجز أمام قوى الطبيعة، ولكن طبيعة البحث العلمي - في عصرنا هذا - قد طرأ عليها من التعقيد ما يجعل العالم مضطرا إلى الإذعان لسلطة أقوى منه، فالأجهزة العلمية أصبحت باهظة التكاليف، وأدوات البحث - من كتب ومراجع - لا بد أن توفرها الدولة، ومن هنا أصبح العالم مجرد ترس في آلة ضخمة هي الدولة، أو هي الشركة الكبيرة إن كان في بلد يسوده النشاط الاقتصادي الخاص. وهكذا أصبحت الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية هي التي تتحكم في عمله العلمي، وهي التي ترسم له الخطة، وتحدد اتجاهات بحثه، وتتخذ القرار النهائي بشأن التصرف فيه.
ولو نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر علمية خالصة لبدا ذلك الجهد الذي تبذله دول العالم اليوم في ميدان التسلح أمرا متنافيا مع كل الأهداف التي يسعى إليها أي عالم يحترم مهنته ويفهم وظيفتها فهما صحيحا؛ ذلك لأن هناك أموالا طائلة تتبدد من أجل إنتاج أسلحة تظل مخزونة بضع سنوات، ثم يظهر ما هو أحدث منها، فتهمل أو تباع إلى دول أخرى أقل تقدما وأقل ذكاء. وهذه الأموال كافية لتحقيق كثير من الأحلام التي يتمنى العلماء لو كرسوا لها حياتهم. بل إن المشروعات التي يمكن إنجازها - فيما لو خصصت هذه الأموال الطائلة للأغراض السليمة - كفيلة بتغيير مجرى الحياة على وجه الأرض، وبالقضاء على مظاهر الجوع والفقر والجهل والمرض. ومثل هذا يقال عن الموارد الطبيعية - من معادن ومصادر للطاقة - التي تبددها مشروعات التسليح، والتي يحتاج إليها الإنسان في عالمنا المعاصر احتياجا شديدا، وربما كان الأهم من ذلك أن العمل في الميدان العسكري يستقطب - في البلاد الصناعية الكبرى - عددا من أفضل العقول التي كان يمكن أن تقدم إلى البشرية أجل الخدمات لو اتجهت في طريق بناء بدلا من أن تخدم أمراض التسلح الهدامة. كل هذا التبديد يحدث من أجل هدف لا تجني منه الإنسانية سوى الخسارة؛ فلو استخدمت الأسلحة الهائلة المكدسة لكان من ذلك فناء الحياة على سطح هذه الأرض في دقائق معدودات، ولو لم تستخدم وظلت مخزونة لكان معنى ذلك تبديد أفضل الموارد والطاقات المادية البشرية - في عالم يعاني من عدد هائل من المشاكل - في صنع منتجات لن يستخدمها أحد.
وإذن، فلو ترك الأمر للعلماء لكان موقفهم - قطعا - في جانب الاستخدام السلمي لموارد مجتمعاتهم، ولا بد أن هناك قوى أخرى، على رأسها ذلك «التحالف الصناعي العسكري» الذي أشار إليه إيزنهاور نفسه - أعني رئيس أكبر دولة صانعة للأسلحة في العالم، وقائد أكبر جهاز عسكري في الحرب العالمية الثانية - وأكد أنه يقف من وراء هذا السباق الجنوني في التسلح.
على أن هذا يعفي العالم من المسئولية؛ فبقدر ما أصبح عمل العالم - في أيامنا هذه - يؤثر على مصير البشرية تأثيرا مباشرا، أصبح هذا العالم مطالبا بأن يكون لديه مزيد من الوعي بنتائج عمله. ولا شك أن هذا الوعي أمر عسير في الوقت الراهن بالذات؛ إذ إن العلم يزداد تفرعا وتخصصا على الدوام، بينما الوعي يحتاج إلى نظرة شاملة وأفق واسع؛ أي إن تطور العلم نحو التخصص المتزايد يسير في اتجاه مضاد لذلك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي أصبح العالم مطالبا به؛ حتى لا يقع فريسة لسوء الاستغلال. ولكن عددا غير قليل من أقطاب العلم في عصرنا هذا تمكنوا من الجمع بين التفوق في تخصصهم، والقدرة على تكوين نظرة متكاملة تجمع بين حاجات العلم وحاجات الإنسان في المجتمع المعاصر، وهؤلاء الأقطاب هم الذين ترتفع أصواتهم في كل مناسبة، منادية باستخدامه لأهداف إنسانية، ومؤكدة أن العلم قادر - لو استخدم من أجل بناء حياة الإنسان لا هدمها - على أن يحيل الصحراء إلى جنة، ويطعم الملايين العديدة من الأفواه الجائعة، ويخلص المرضى من آلامهم، ويكفل للمحرومين إنتاجا سخيا فائضا، ويرعى عقل الإنسان في كل مكان بثقافة عالية وفن رفيع. وصحيح أن أصواتهم هذه ليست لها الكلمة الأخيرة، ولكن كلمتهم مع ذلك مؤثرة، ولو اتسعت قاعدة الوعي بين العلماء لأصبح لديهم من القوة ما يمكنهم - على الأقل - من موازنة حماقات السياسيين.
Unknown page