أما في أساليب التفكير العادية فإن اليقين يعتمد - كما قلنا - على الشعور الداخلي للشخص نفسه بأنه واثق من شيء معين، وهذه الثقة قد تكون ناتجة عن أن الفكرة التي يرددها تخدم مصالحه؛ فإذا سمع الموظف إشاعة تقول إن الحكومة ستصرف علاوة للموظفين، رددها للآخرين باعتبارها خبرا «يقينيا». أو قد تكون الثقة ناتجة عن عدم الاطلاع على وجهة النظر المضادة، فيؤكد الفرد شيئا بصفة قاطعة؛ لأن الفرصة لم تتح له كيما يعرف الرأي المخالف في الموضوع، وهذا أمر شائع في كثير من المناقشات السياسية، وخاصة في البلاد غير الديمقراطية؛ حيث يعرف المرء وجهة نظر حزبه أو بلاده ولا تتاح له معرفة أية وجهة نظر أخرى. كما أن هذا العامل قد يكون سببا في «يقين» من ينتمي إلى أي طائفة دينية بأن طائفته وحدها على حق، وكل الطوائف الأخرى على خطأ. (ب)
على أن العلم لا يمكن أن يرتكز على هذا النوع من اليقين النفسي الذي يختلف من فرد لآخر، والذي تتحكم فيه الظروف والمصالح والعوامل الذاتية، وإنما يكون اليقين فيه «موضوعيا»، بمعنى أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل، ولا بد للوصول إلى هذا اليقين الموضوعي من هدم كل أنواع اليقين الذاتية الأخرى، فلا بد أن يزعزع العالم - كخطوة أولى في بحثه - ما رسخ في عقول الناس من أوهام وتحيزات عملت على تثبيتها عوامل غير موضوعية. وكثيرا ما كانت نقطة البداية المؤدية إلى كشف علمي هام هي التشكيك في يقين راسخ حتى عند العلماء أنفسهم، كما هي الحال عندما شكك بعض علماء الهندسة في المصادرة القائلة أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، ثم توصلوا من ذلك إلى هندسة جديدة هي الهندسة «اللاإقليدية» التي ترتكز عليها النظريات الحالية في الفيزياء. كذلك يؤدي أي كشف علمي هام إلى زعزعة اليقين الذي كان متوطدا من قبل في عقول البشر دون أن يفكر أحد في المساس به؛ أي إلى حلول يقين علمي موضوعي محل يقين ذاتي، كما حدث عند ظهور نظرية كبرنيكوس التي هدمت الاعتقاد «اليقين» القديم بأن الأرض ثابتة وبأنها هي مركز الكون.
ولكن إذا كان اليقين العلمي يعتمد على براهين وأدلة منطقية، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يقين ثابت أو نهائي. فالعلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تسري على كل زمان ومكان، بل يعمل حسابا للتغير والتطور المستمر. أي إن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة لا يعني أن الحقائق تعلو على التغير، بل إن المقصود من ذلك أن البرهان العلمي يقنع كل من يستطيع فهم هذا البرهان في ضوء حالة العلم في عصر معين. أما أن تتحول القضية العلمية إلى حقيقة تفرض نفسها على الناس في جميع العصور، فهو شيء يتنافى مع طبيعة العلم ذاتها. (5) الدقة والتجويد
في حياتنا المعتادة نستخدم في أحيان كثيرة عبارات تتسم بالغموض وتبتعد عن الدقة، كأن يقول شخص: «قلبي يحدثني بأنه سيحدث كذا ...» وأمثال هذه التعبيرات ليست مرفوضة في الأحاديث اليومية المألوفة، بل إنها قد تؤدي فيها وظيفة عامة، هي الإيحاء بشيء معين دون تحديد دقيق له، أما في العلم فمن غير المقبول أن تترك عبارة واحدة دون تحديد دقيق، أو تستخدم قضية يشوبها الغموض أو الالتباس، بل إنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يجزم بشيء ما على نحو قاطع، وإنما يظل هذا الشيء «احتماليا» في ضوء أحدث معرفة وصل إليها العلم. حتى في هذه الحالات يعتبر العلم عن هذا «الاحتمال» بدقة؛ أي بنسبة رياضية محددة، وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبيرا فيه مثل هذه المفارقة. والوسيلة التي يلجأ إليها العلم من أجل تحقيق صفة الدقة هذه هي استخدام لغة الرياضيات. وبالفعل يتبين لنا من دراسة تطور العلم أنه كلما انتقل إلى مرحلة أدق، أصبح من المحتم عليه أن يستخدم الصيغ الرياضية على نطاق أوسع. وبالعكس تظل العلوم غير دقيقة ما دامت تعبر عن قضاياها باللغة المادية، ومن هنا كنا نجد بعض مؤرخي العلم يفرقون في تاريخ أي علم بين مرحلتين؛ المرحلة قبل العلمية
pre-scientific
التي يستخدم فيها لغة الحديث المعتادة. والمرحلة العلمية
scientific
التي يتوصل فيها إلى استخدام اللغة والأساليب الرياضية. والمثل الواضح على ذلك علم الطبيعة؛ فمنذ العصور القديمة كانت هناك محاولات لدراسة الطبيعة على أسس علمية، ولكن كان يعيب هذه المحاولات اعتمادها على لغة «كيفية»؛ أي على الكلام عن الظواهر الطبيعية من خلال صفاتها التي تبدو للحواس المعتادة كالحار والبارد والثقيل والخفيف، أو من خلال الصفات التي ينسبها إليها العقل الفلسفي كالمادة والصورة والقوة والفعل، وخلال ذلك كله لم يكن هناك علم طبيعي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ولم يبدأ ظهور هذا العلم إلا على أيدي أقطاب الفيزياء في أوائل العصر الحديث وعلى رأسهم جاليليو؛ إذ استطاع هؤلاء الأقطاب أن يطبقوا الرياضيات على البحث الطبيعي، ويطبقوا لغة الكم في التعبير عن الظواهر الطبيعية. وبالمثل ظلت الكيمياء تستخدم اللغة الكيفية طويلا، وتجمعت لديها خلال ذلك كمية لا بأس بها من المعلومات، وخاصة في الوقت الذي كان فيه الكيمائيون القدامى يبحثون بلا جدوى عن وسائل تحويل المعادن الرخيصة (كالنحاس) إلى ذهب، فخلال فترة «الهوس» الطويلة هذه عرفت أشياء كثيرة عن خواص الأجسام وتفاعلاتها، ولكن هذه المعرفة كانت خبرات متوارثة أو تجارب عشوائية ولم تكن علما؛ لأنها لم تكن تستخدم إلا لغة الكيف، ولم تبدأ الكيمياء دخول المرحلة العلمية إلا في القرن الثامن عشر عندما طبقت فيها المناهج الكمية، واستخدمت في التعبير عن حقائقها النسب والمعادلات الرياضية.
أما في مجال العلوم الإنسانية، فيمكن القول أن النزاع لم يبت فيه بعد بين أنصار التعبير الكيفي والتعبير الكمي عن الظواهر البشرية؛ إذ لا تزال توجد حتى يومنا هذا مدارس تؤكد أن الظاهرة الإنسانية مختلفة - من حيث المبدأ - عن الظاهرة الطبيعية؛ ومن ثم فإن أساليب التعبير عن الثانية لا تصلح للأولى، وإنما يجب أن نحتفظ للإنسان بمكانته الخاصة، ونعترف بطبيعته شديدة التعقيد، فلا نفرق في تبسيطها باستخدام لغة الرياضيات، وفضلا عن ذلك فإن الإنسان كائن فريد، وأهم ما في أي فرد هو العناصر التي يختلف فيها عن الآخرين، لا تلك التي يشترك فيها معهم. ومن هنا كان استخدام لغة الرياضيات يعني إزالة أهم مميزات الإنسان، واستبقاء أقل الأشياء أهمية، أعني تلك العناصر المشتركة التي تقبل التعبير عنها بلغة عددية، وفي مقابل ذلك يؤكد غيرهم أن مسار المنهج العلمي ينبغي أن يكون واحدا في جميع المجالات، وأن الدراسة الفردية للإنسان تعود بنا إلى عهد التعبير الفلسفي أو الفني أو الشعري عن مشاكله، على حين أننا إذا أردنا أن ننتقل إلى المرحلة العلمية في دراسة الإنسان فلا بد أن نتبع نفس الأساليب التي اتبعت بنجاح في بقية العلوم، مع عمل حساب الفوارق المميزة بين موضوع الدراسة الإنسانية وموضوع الدراسة الطبيعية. ويمكن القول أن هذا الرأي هو الذي ترجح كفته حاليا في ميدان العلوم الإنسانية، وإن كانت هناك مدارس لا يمكن تجاهلها ما زالت متمسكة بالرأي الأول.
والرياضة بطبيعتها علم مجرد؛ أي إنه لا يتحدث عن أشياء ملموسة، فحين نقول: إن 3 + 2 = 5 يكون المقصود من هذا أية ثلاثة أشياء محددة، وإنما المقصود هو العلاقة المجردة بين حدود معينة، بغض النظر تماما عما إذا كانت هذه الأرقام تعبر عن بشر أو فاكهة أو كتب ... إلخ. وتلك حقيقة يعرفها تلميذ المدرسة الابتدائية، الذي نعوده التجريد منذ مرحلة مبكرة من عمره، بعد أن يكون قد بدأ يلم بحقائق الحساب البسيطة في بداية مرحلته التعليمية بصورة ملموسة، عندما نقدم إليه فكرة الجمع والطرح عن طريق «البلي الملون» الذي نجمعه أو نطرحه على أسلاك حديدية. ففترة التعليم من خلال أمثلة ملموسة كهذه لا تستمر طويلا، وسرعان ما يصبح من الضروري أن نعوده كيف يتعامل مع الرقم «ثلاثة» ناسيا أنه يعبر عن ثلاث بليات أو ثلاث برتقالات، وعندما ينتقل إلى المرحلة التعليمية التالية، نعوده على مزيد من التجريد حين نقدم إليه حقائق الرياضة في صورة رمزية جبرية، فيعرف أن المعادلة س + ص = ص + س تظل صحيحة مهما كانت القيم العددية للحرفين س وص، أي إن التجريد هنا أصبح يسري على الأرقام ذاتها.
Unknown page