لذلك فإن العلم - عندما عدل المفهوم التقليدي للسببية فيما بعد - لم يفعل ذلك لأسباب فلسفية، أو نتيجة لنقد من النوع الذي قال به هيوم، وإنما قام بهذا التعديل لأسباب علمية خالصة؛ فقد تبين له أن هناك ظواهر كثيرة تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه أن نجد لها سببا واحدا، وإنما تشترك فيها مجموعة من العوامل، لكل منها دور في أحداث الظاهرة، فإذا كنا مثلا بصدد تعليل ظاهرة الإجرام كان في إمكاننا أن نجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، فلو أخذنا مجموعة كبيرة من المجرمين؛ لوجدنا أن منهم من ارتكب جريمته لأسباب اجتماعية اقتصادية كالفقر، ومنهم من ارتكبها لأسباب متعلقة بالقيم كالمحافظة على الشرف أو الأخذ بالثأر، أو لأسباب عضوية وراثية كوجود اختلال معين في العدد أو في التركيب العقلي، أو لأسباب متعلقة بالبيئة والتربية وهلم جرا. كل من هذه العوامل له دوره في ظاهرة الجريمة، فهل يفيدنا أن نلجأ إلى فكرة السببية بمعناها المعتاد في هذه الحالة؟ من الواضح أن الظاهرة تبلغ من التعقيد حدا لا نستطيع معه أن ننسبها إلى سبب معين؛ ولذلك نلجأ إلى فكرة الارتباط الإحصائي لكي نبين النسبة التي يسهم بها كل عامل من العوامل السابقة في إحداث هذه الظاهرة، فنقول: إن نسبة (أو معامل) ارتباط العوامل الوراثية بارتكاب الجرائم هي كذا ... ومن مزايا هذه الطريقة أنها تمكننا من تحليل الظواهر شديدة التعقيد، وخاصة تلك التي تحدث في مجال العلوم الإنسانية، حيث تتعدد عوامل الظاهرة الواحدة وتتشابك على نحو يستحيل فيه استخدام علاقة السببية المباشرة، كما أن من مزاياها أنها تتيح المقارنة - بطريقة رقمية دقيقة - بين هذه العوامل، بحيث نستخلص مثلا أن العوامل المكتسبة أقوى تأثيرا في ظاهرة الإجرام من العوامل الوراثية ... إلخ.
والمهم أن العلم في الوقت الحالي يبحث عن بدائل لفكرة السببية - بمفهومها التقليدي - في المجالات التي لا يتسع فيها هذا المفهوم للتعبير عن العلاقات بين الظواهر تعبيرا دقيقا، ولكن من المهم أن نذكر على الدوام أن هذا لا يعني «إلغاء» فكرة السببية، بل يعني «توسيعها»؛ ففي المجالات التي تكون العلاقات فيها مباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - كالعلاقة بين جرثومة معينة ومرض معين - تظل فكرة السببية مستخدمة، وتظل لها فائدتها الكبرى في العلم، والتطور الذي حدث في هذا الصدد مشابه للتطور الذي يحدث في النظريات العلمية ذاتها في أحيان كثيرة؛ حيث لا يؤدي ظهور النظرية الجديدة إلى إلغاء القديمة، بل يوسع نطاق تطبيقها ويمتد بها إلى مجالات لم تكن النظرية القديمة قادرة على استيعابها. ومن المؤكد أن التوسيع المستمر لنطاق البحث العلمي، والكشف الدائم عن مجالات جديدة أو عن أبعاد جديدة للمجالات المعروفة من قبل، يجعل فكرة السببية - بمعنى العلاقة المباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - غير كافية للتعبير عن كل متطلبات العلم، وإن ظل لها دورها في مجالات محددة. (4) الشمولية واليقين
المعرفة العلمية معرفة شاملة، بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التجربة اليومية المألوفة، مثل سقوط جسم ثقيل على الأرض، فإنها لا تكتفي بتقرير هذه الواقعة على النحو الذي نشاهدها عليه، وإنما تعرضها من خلال مفاهيم ذات طابع أعم، مثل فكرة الجاذبية والكتلة والسرعة والزمن ... إلخ، بحيث لا تعود القضية العلمية تتحدث عن سقوط هذا الجسم بالذات، أو حتى عن مجموعة الأجسام المماثلة له، بل عن سقوط الجسم عموما، وبذلك تتحول التجربة الفردية الخاصة - على يد العلم - إلى قضية عامة أو قانون شامل، على أن شمولية العلم لا تسري على الظواهر التي يبحثها فحسب، بل على العقول التي تتلقى العلم أيضا؛ فالحقيقة تفرض نفسها على الجميع بمجرد ظهورها، ولا يعود فيها مجال للخلاف بين فرد وآخر؛ أي إن العلم شامل بمعنى أن قضاياه تنطبق على جميع الظواهر التي يبحثها، وبمعنى أن هذه القضية تصدق في نظر أي عقل يلم بها.
وهنا يظهر الاختلاف واضحا بين العمل العلمي والعمل الفني أو الشعري؛ ذلك لأن الموضوع الذي يتناوله هذا العمل الأخير هو بطبيعته موضوع فردي، وحتى لو كان يتناول قضية عامة - مثل أزمة الإنسان - فإن الفنان أو الشاعر يعالج هذه القضية العامة من خلال شخصية فردية ومواقف محسوسة وملموسة. ومن ناحية أخرى فإن العمل الفني يظل على الدوام مرتبطا بصاحبه وبالأصل الذي نشأ منه ارتباطا عضويا، بحيث لا يفهم أحدهما فهما تاما بدون الآخر. وهكذا يتعرف الخبير في الموسيقى أو الشعر على مؤلف القطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية من خلال إنتاجه ذاته، وكل من العمل وصاحبه يحيلنا على الدوام إلى الآخر. أما العمل العلمي فلا يوجد ارتباط عضوي بينه وبين جميع العوامل والظروف الشخصية المتعلقة بكيفية نشأته والشخص الذي ظهر على يديه ... إلخ. ومن هنا كانت الحقيقة العلمية «لا شخصية
impersonal » على عكس العمل الفني، وكان صدق هذه الحقيقة غير متوقف على ظروف المكان والزمان الذي تنشأ فيه إلا من حيث تعبيرها عن مستوى العلم في مرحلة معينة من تطوره فحسب. أما العمل الفني فإن الظروف الفردية والشخصية لمبدع هذا العمل تقوم فيه بدور يستحيل تجاهله إذا شئنا أن نفهم هذا العمل ونتذوقه من جميع جوانبه.
وعلى ذلك فإن الحقيقة العلمية قابلة لأن تنقل إلى كل الناس الذين تتوافر لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها، أي إنها حقيقة عامة أو مشاع
public
تصبح بمجرد ظهورها ملكا للجميع، متجاوزة بذلك النطاق الفردي لمكتشفها والظروف الشخصية التي ظهرت فيها، وهذه الصفة هي التي تجعل الحقيقة العلمية «يقينية».
والواقع أن «اليقين» في العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بطابع «الشمول» الذي قلنا: إن القضايا العلمية تتسم به؛ إذ إن كل عقل لا بد أن يكون «على يقين» من تلك الحقيقة التي تفرض نفسها عليه بأدلة وبراهين لا يمكن تفنيدها. على أن كلمة «اليقين» ذاتها - بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى - يمكن أن تستخدم في الواقع بمعنيين متضادين، ينبغي أن نميز بينهما بوضوح حتى تتبين لنا طبيعة اليقين العلمي: (أ)
فهناك نوع من اليقين نستطيع أن نطلق عليه اسم «اليقين الذاتي»، وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما، هذا النوع من اليقين كثيرا ما يكون مضللا؛ إذ إن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية. وإنا لنلاحظ في تجربتنا العادية أن أكثر الناس «يقينا» هم عادة أكثرهم جهلا؛ فالشخص محدود الثقافة «موقن» بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة، وبصحة الإشاعة التي سمعها من صديقه، وبصحة الخرافة التي كانت تردد له في طفولته، وهو لا يقبل أية مناقشة في هذه الموضوعات؛ لأنها في نظره واضحة يقينية، وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها «عن يقين»، وازداد استخدامه لألفاظ مثل «من المحتمل» و«من المرجح» و«أغلب الظن» ... إلخ. بل إننا نجد بعض العلماء يسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حد لا نكاد نجد معه تعبيرا جازما أو يقينيا واحدا في كل ما يكتبون؛ إذ ممارستهم الطويلة للعمل العلمي، وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغير مستمر، وأن ما كان بالأمس أمرا مؤكدا قد أصبح أمرا مشكوكا فيه، وقد يصبح غدا أمرا باطلا؛ كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تعبر عن يقين نهائي.
Unknown page