ثعلب والمبرّد، وكان طاهر الأخلاق، حسن المجالسة، صادقا فيما يرويه حافظا للقرآن، فقيها على مذهب داود الظاهري رأسا فيه؛ مسندا في الحديث حافظا للسّير وأيام الناس والتواريخ والوفيات، ذا مروءة وظرف جلس للإقراء أكثر من خمسين سنة، وكان يبتدئ في مجلسه بالقرآن على رواية عاصم، ثم يقرئ الكتب، وكان يقول: سائر العلوم إذا متّ، هنا من يقوم بها، وأمّا الشعر، فإذا متّ مات على الحقيقة، وقال: من أغرب عليّ ببيت لجرير لا أعرفه فأنا عبده.
قال الزّبيديّ: وكان غير مكترث بإصلاح نفسه يفرط به الصّنان (١) فلا يغيّره، حضر مجلس وزير المقتدر فتأذّى هو وجلساؤه بكثرة صنانه؛ فقال يا غلام، أحضر لنا مرتكا (٢) فجاء به فبدأ الوزير بنفسه فتمرتك، وأداره على جلسائه؛ وفطنوا لما أراد بنفطويه؛ فقال نفطويه: لا حاجة لي به فراجعه فأبى، فاحتدّ الوزير، وقال يا عاضّ بظر أمّه إنما تمرتكنا كلّنا لأجلك؛ قم لا أقام الله لك وزنا! أبعدوه عني إلى حيث لا أتأذّى به.
وكان بينه وبين محمد بن داود الظاهري مودة أكيدة. فلما مات ابن داود حزن عليه، وانقطع لا يظهر للناس، ثم ظهر، فقيل له في ذلك؛ فقال؛ إن ابن داود قال لي يوما: أقل ما يجب على الصديق أن يحزن على صديقه سنة كاملة عملا بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (٣)
فحزنّا عليه كما شرط.
_________
(١) الصنان: ريح العرق.
(٢) المرتك: نوع من العطر.
(٣) معجم الأدباء لياقوت الحموي ١/ ٣٠٩.
1 / 22