وما أعني غير طبخة المنهاج، فقد زيد ماؤها مرات ولم تستو بعد، ومثلنا يقول في التفاهة: الطبخ المزاد والكلام المعاد ... إن التعليم وسيلة إلى التربية، وغاية التربية صقل الغرائز الموروثة لا خلق غرائز جديدة ... إننا لا نريد دهانا بل صقلا يبرز لنا عرق الأصل كما يفعل النجار بالخشب الشريف، فأي هدف يرمي من يقول لتلميذ عصر الكهرباء: عندي رطل زيتا؟! هذا مثل وضعه نحاة العراق بعد الهجرة حين كانوا يكتبون على ضوء مصباح راهب امرئ القيس، فلماذا نردده نحن على مسمع من في بيته قناطير زيت؟!
السيارات احتلت مملكة الدواب واستعمرتها، فقبعت الجحاش في الأرض مبتئسة واجمة، والمعلم ما فتئ يصيح بحبساء صفه: قام القوم إلا حمارا!
لقد بعد عهد الحمير بالشعير فكيف تقوم يا مولاي؟!
ألم يطرق مسمعك يا حضرة المعلم قول جون ديوي فيلسوف التربية الأمريكي: العلم وسيلة لا غاية ؟ فبماذا تتوسل أنت يا زميلي؟ وإلى أية غاية تسعى؟ أنظل نتلهى بعقول أبنائنا وننقرها ونحشوها كأنها القرع أو الكوسى؟
تدخل الصفوف فترى الطلاب كأنهم الشجر المغروس، أو سردين مكبوس، وعلى المنبر «هبل» يقال له الأستاذ، منتصب كأنه شيء اللوف، أو نطار في مقثاة يخاف عليها عدوان الثعالب.
عفوا يا أخي الأستاذ، فأنا وأنت رصيفان، ومن ساواك بنفسه فما ظلمك، هذه حالنا ومن ينكر أننا مسيرون ولا مخيرون؟ يذلل رقابنا نير منهاج أخرس أطرش، لا يحول ولا يزول كأنه شرائع «مادي» وفارس، أو لوحة الوصايا العشر التي كتبها الرب لموسى، لا يدخل مدارسنا شيء من الخارج، فما فيها إلا وجوه كالحة على أجسام جامدة، وإن تنشط يحل بها العقاب، فيا ويل الأمة من مدارسها البالية!
مدارس خالية من كل شيء إلا من الألواح السوداء والمقاعد والمناضد الصفراء، فارغة كتابوت العهد ومن يمسها يصعق، على كل منبر من منابرها جبار لا تبين له سن ولو جعلت مخل أرخميدوس بين فكيه، أمجنون هو حتى يضحك؟! ومن يضمن له هيبته ووقاره إذا ابتسم؟! كان في الأمس رفيقا ومرشدا فصار ناطور ورشة وخفير أسرى حكم عليهم بالأشغال الشاقة ... ليس لهم أن يقفوا! وجد ليكون صديقا مشيرا فأمسى حاكما بأمره، إن عطس تلميذ عطسة رنانة طار صوابه، وعد ذلك تحديا لهيبته وأبهته، وإن تنحنح أو أح امتعض على كرسي مجده! فما هذه الطباع، ومن أي الطرق خلصت إليه؟!
مسكين المعلم! إن حمله ثقيل، لا بد من بلوغ المحج، وتأدية الحساب على البيدر ... على التلميذ أن يحفظ من روائع الأدب كذا وكذا، وكذا وكذا من علم أصول اللغة ومفرداتها، وعليه أن يحفظ التاريخ ووقائعه، وفي أي عام وشهر ويوم حدث كيت وكيت، وأن يعد الأنهار والبحيرات في قارة أوروبا، وأن يستظهر كتب العلوم من حساب وفرضيات ومعادلات وكيمياء وطبيعيات، وأن يعرف علم النبات والحيوان جملة وتفصيلا، وعليه ألا يخرم من تلك «الخطط» التي دبرها الأستاذ لينفذ تلاميذه في مضيق أواخر حزيران، وعليه أولا ألا يفكر وحده، ولأمه الهبل إن كان ذا شخصية.
أما التربية والرجولة والتفكير فليست في الحساب، إنها أمور تافهة، ليكن رأس الطالب رمانة معارف لا وردة تتطال للنور والهواء، إن هذه المعلومات التي يخبئها الطالب ليوم الفحص الأسود لا تبقى في الذاكرة وتنسى بعد ستة أشهر - كما يقول تين - وهي مع ذلك جل ما يعرفه بنونا من شئون الحياة، فهذا الطالب النجيب الحائز قصب السبق في الرهان لو كلف القيام بعمل أدبي آخر غير الذي حفظ ودرس لتخاذل وتلكأ وتلعثم ووأوأ، وإذ ذاك نخجل نحن ونعلم أن مناهجنا لا رجالا خلقت ولا علماء أوجدت. علمناهم ما لا ينفع، علمناهم ما لا يحتاجون إليه في دنياهم، وسلمناهم للحرب العوان بندقية الفتيل والصوان في عهد القذائف والقنابل الذرية والهيدروجينية، رحم الله عظام غوستاف لوبون القائل: «إن انتخاب طرائق التربية أولى باهتمام الأمة من انتخاب شكل الحكومة.»
كم سمعت تلميذي يتذمر! وكم سمعت ابني يتأفف! فرثيت لهما، فأكثر من يتغذون بمواد البرنامج كمن يشرب زيت الخروع وهم عليه صابرون وله كارهون.
Unknown page