129

Subul Wa Manahij

سبل ومناهج

Genres

شكا إلي جملي طول السرى

صبر جميل فكلانا مبتلى

أجل، كلانا نمشيها خطى كتبت علينا، ولا نلتقي إلا على منهج كما قال العرجي. ولا أقول إن كل الشر في المنهاج، ففي عقول الأساتيذ شيء كثير، فالاستنباط عندهم قليل، والأساليب قياسية مطردة، وما أقل الخارجين من حظيرة القدماء!

بحياتك يا سيدي المعلم، قل لي: ما يعني ابن هذا الزمان من عراك شب بين سيبويه والكسائي؟ سيان عنده لسعة العقرب والزنبور، فلا صفا قلب الفراء وليخرفش الأخفش ما شاء، وليظل ثعلب في كرم أبي الأسود حتى تفنى العناقيد، أما أنت فعلم تلميذك أن يكتب صحيحا ويفكر تفكيرا مستقيما، وإياك أن تجعله أسطوانة فونوغراف!

أما الأدب فأصبح صورا معدة تمليها الأساتذة ليحفظها التلاميذ، كأنها صلاة يلقنها المؤمن الساذج ليتحدث بها إلى ربه حين يخلو بنفسه، إن هذا المنهاج كان طويلا معلولا وعدلناه فزدناه أربعة أضعاف، فيه وجوه متماثلة لا يدري الأستاذ ما يقول فيها فيملها الطالب ويكره لأجلها وجه المعلم، فجل صور الأدباء المفروضين بلهاء حائرة لا تحدث الولد إلا عن غرائز فطرية متماثلة، والولد يتطلب الجديد، حريص كالنملة على الجمع والادخار، فما أمر خيبته إذ يمد يده ولا يرى شيئا!

أما في الفلسفة فيمر طلابنا في رواق أرسطو مرور النسر في الجو، ويحصى في جمهورية أفلاطون من أبناء السبيل، ويعلم من مذاهب علم النفس ما يكسر العطش ولا يروي الغليل، فحسبه أن يتبجح بما قال جيمس وريبو ليصير فيلسوفا فحلا، ومتى حان الامتحان جثم المميز كأنه النمر الحردان، لا يرق ولا يرحم، لا يريد أن يعلم أن هذا الفتى الرطب العود قد استظهر في عام آلاف الصفحات ليقف بين يديه بضع دقائق يقول له في نهايتها إما اذهب عني يا ملعون ... أو ادخل فرح سيدك.

من راقب أعمال التلاميذ في السنة المدرسية وخصوصا قبل الامتحان بأسابيع يرثي لهم، حياة كأنها الأعمال الشاقة، فمنهم من لا يلم بالنوم إلا بطرف ليجني من العوسج تينا، وهيهات! العمال تقلل ساعات عملهم، أما تلاميذ المدارس فتزداد، مساكين هؤلاء! يهرقون شبابهم ثمن نظريات لا تطعم أكثرهم خبزا.

إن أكثرها بعيد عن الحياة التي تنتظرهم، وفي كل برهة تزداد المناهج شحما وورما، وتنحط الثقافة انحطاطا مخزيا، وعدد العارفين والرجال يقل قلة مخجلة. فهل من يضع حدا لهذا التكالب على جمع معلومات لا قيمة لها في الحياة العملية؟ المنهاج لا يسعف على طلب العلم للعلم، وهدف التلامذة والمدارس فيه الشهادة لا المعرفة ولا التكوين الشخصي، فمتى تلائم بين النقيضين؟! متى تدق الساعة التي تمشي فيها المدرسة والحياة يدا في يد؟ فهذه المعلومات التي تحشى بها الذاكرة ليست عدة للكفاح الحيوي، وقد يخرج التلميذ من المدرسة كما يفر عصفور من ظلمة البيت ليقع على نافذة زجاج، فإما أن يكسر الزجاج وينطلق، وإما أن يسقط دائخا فينشب به الهر مخالبه.

الولد - كما يعلم ديوي - هدف المدرسة، وعلى المواد التدريسية أن تخضع له وتجعل أداة لتطوره ونموه وارتقائه، فمن زعم أن المدرسة وجدت لتكديس المعلومات في رأس الولد فقد ضل ، إن غاية المدرسة هي تكوين الشخصية، فطبقا لنفسية الولد ترسم المدرسة لا بناء على كتب بعينها لمؤلف بعينه رافق وسيرافق المنهاج - بعد عمر طويل - من المهد إلى اللحد، ومن أين يفر المنهاج من بين يديه ومن دائرة كتبه؟ كان عدد المؤلفين تسعة وعشرين فأعادوه إلى مائة وما فوق، ولا نعلم ما يفعل القائمون على تعديله، وكم يفرضون علينا من روائع ...

فليكن قائدنا العقل، فإخضاع حياة الولد لمنهاجنا الحاضر يقود إلى هزال نفسي، فلنهذبها لتكون وسيلة لحياة مثلى أفيد وأنفع، فلنجعل الحياة المدرسية طبيعية كما تتطلبها الحياة التي تصخب وتضج في جسوم أبنائنا، فوظيفة المدرسة الاندغام في الحياة لا الابتعاد عن العالم، والمناهج وسائل لخلق جو ملائم يحيا فيه المتعلم حياة نشاط وعمل لا حياة ملل وضجر.

Unknown page