Siddiqa Bint Siddiq
الصديقة بنت الصديق
Genres
ذلك هو التقدير الراجح الذي ينفي ما يقوله المستشرقون على النبي بصدد زواجه بعائشة في سن الطفولة الباكرة، وكل تقدير غير ذلك فهو تقدير مرجوح. •••
وقد ملكت ربة البيت الصغيرة بيتها الجديد من اللحظة الأولى؛ لأنها كانت تدل فيه بمكانة الزوجة المحبوبة عند زوجها العطوف، وبمكانة البنوة الناشئة عند الأبوة الرحيمة، ومكانة ابنة الصديق العزيز التي أضفى عليها المودة والإيثار ما كان بين النبي والصديق من مودة هي أوثق وأبقى من مودة الرحم؛ لأنها مودة الوفاء والإعجاب والإيمان، أو مودة الحياة وما بعد الحياة.
وقد سجلت لنا السيدة عائشة خطرات نفسها خطرة خطرة، ووصفت لنا في بيتها الجديد كل صغيرة وكبيرة ظاهرة وخافية، ولكنها لم تذكر لنا قط كلمة واحدة تنم عن وحشة الانتقال من بيت إلى بيت، ومن معيشة إلى معيشة، ومن ظل أبوين إلى ظل رجل غريب عنها لا تعرف عنه إلا ما تعرفه عن النبي كل صبية مسلمة في سنها الباكرة؛ لأن عطف محمد هو العطف الغامر الذي لا يلجئ إلى عطف سواه، وقد أغنى زيدا عن أبيه وأمه فآثر حياة الأسر مع سيده على حياة الحرية مع أبيه وأمه، فأحرى بمثل هذا العطف أن يغني الفتاة التي تأوي إليه فتلوذ منه بعطف زوج وعطف أب وعطف صديق.
وتركها على سجيتها تلعب بالعرائس في بيت زوجها كما كانت تلعب بهن في بيت أمها وأبيها، وربما جاءها صواحبها الصغار «فينقمعن - كما قالت - من رسول الله، فكان - عليه السلام - يسير بهن إليها ليلعبن معها».
وقالت جاريتها بريرة تصفها وهي في السنوات الأولى من زواجها: «ما كنت أعيب عليها شيئا، إلا أنها كانت جارية صغيرة، أعجن العجين وآمرها أن تحفظه فتنام، فتأتي الشاة فتأكله.»
وكان - عليه السلام - يتعهدها بما يسرها، وإن عجب الصحابة الذين لا يفهمون وقار الدين كما يفهمه، ولا تتسع صدورهم لما يتسع له صدره. ودخل عليها أبوها وعندها قينتان تغنيان في يوم منى، والنبي - عليه السلام - مضجع مسجى في ثوبه، فصاح بها: أعند رسول الله يصنع هذا؟ ... فكشف النبي عن وجهه وقال: دعهن فإنها أيام عيد.
وكان السودان يلعبون في يوم من أيام العيد بالدق والحراب، فسألها عليه السلام: تشتهين أن تنظري؟ قالت: نعم. قالت: «فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة - كنية الحبشة - حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم! قال: فاذهبي.»
وربما مر أبوها - رضي الله عنه - بالبيت فيسمع صوتها عاليا في حضرة النبي عليه السلام، فيدخل غاضبا يتناولها ليلطمها وينهرها قائلا: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله. فينهض - عليه السلام - ليحجزه، ويقول لها بعد خروجه: رأيت كيف أنقذتك من الرجل؟
وفي مرة من هذه المرات خرج أبو بكر مغضبا، ثم عاد فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما.
فقال النبي: قد فعلنا.
Unknown page