وقال غضبان: اسكت أنت يا سليمان. - عجيب أمرك معي، رفضت أن أقيدك وأنت الآن ترفض أن أحاسبك، ما شأنك معي؟ - إنك أكثر أبناء القبيلة انتفاعا بما قدمت. - لم تقدم إلا الأحاديث المزوقة، وأخبار الحروب الوهمية التي خضتها والبطولة الزائفة التي ادعيت إنك صاحبها.
ونظر غضبان لحظات إلى سليمان، ثم راح يجيل عينيه في أبناء القبيلة فوجد عيونهم جميعا تنتظر جوابه ونكس رأسه هنيهة ثم رفع رأسه في هدوء وثقة. - لقد قدمت إليكم بهذه الأحاديث أعظم ما كنتم تفتقدونه ولا تجدونه. - أنت؟ - قدمت إليكم الأمن، قدمت إليكم الاطمئنان.
وكأنما كانت هذه الكلمة في واد سحيق بعيد عن أذهان الجميع، نظر أبناء القبيلة بعضهم إلى بعض ثم التقت عيونهم جميعا عند شيخ القبيلة فوجدوه صامتا صمت المفحم الذي لا يجد ما يقول، واستمر غضبان في حديثه موجها كلامه إلى سليمان ما يزال: بهذا الأمن وهذه الطمأنينة تزوجت يا سليمان، وجد الفرح سبيله إلى قبيلة كانت قبل أن أجيء مفزعة في صباحها ومسائها، طعامها قلق وشرابها شغل وتفكير، أكثير ما أخذته منكم مقابل ما أعطيتكم، لقد نلتم المقابل، نلتموه كاملا، أليس كذلك يا سليمان؟
تحية عابرة
كان عدلي يفرح أشد ما يفرح حين يمر بالأطفال فيلقي عليهم التحية فيستقبلونها بالفخر والإعجاب والإكبار، إن عدلي جمعة يلقي عليهم التحية ويعتبرهم رجالا يستحقون منه هذا الإكرام، وكان هذا الشعور بالفرح في نفوس الأطفال يسكب سعادة مزغردة في قلب عدلي ويشعره أنه ما زال فتى الليل ذا الصيت الضخم الذي تهتز لذكره أفئدة الناس في قريته وجميع القرى المجاورة، وكان هذا الشعور يسليه عن أنظاره الذي يعلم أنه أصبح ضعيفا وهو يعلم أنه يجب أن يذهب إلى طبيب يعالج له ما يفقده من بصره، ولكنه يخشى أن يسامع الناس بهذا فتسقط هيبته ويزول مجده الذي أصبح في مهب الرياح منذ توقف عن الأعمال المجيدة التي تعود أن يقوم بها؛ فهو لم يقتل أحدا منذ ثلاث سنوات ومجده يوشك أن يصبح نسيا؛ فإنه لولا فرحة الأطفال بتحيته لأصبح بلا مجد على الإطلاق.
وهو يخشى أيضا أن تعرف حبيبته هنية أن نظره قد ضعف؛ فينكمش حبها له وتفضل عليه زوجها عبد الباقي؛ فهو إذن يبقي على سره دفينا في العميق من صدره لا يطلع عليه أحد.
خرج عدلي من داره في أول الليل وراح يتحسس طريقه إلى دار عبد الباقي في ليلة موعد كان عبد الباقي في الحقل يروي الأرض وسيظل هناك إلى ساعة متأخرة من الليل؛ فالفرصة مواتية لعدلي أن يذهب إلى هنية.
استقبلته هنية في بشاشة ودخلا إلى حجرة النوم.
لم يطل بهما المقام في الحجرة فقد سمعا صوتا. - عبد الباقي. - هل ترك الغيط؟ - اخفض صوتك. - أيهمك أمره؟ - زوجي. - وأنا عدلي. - إنه زوجي.
وذهل عبد الباقي مما يرى. - عدلي.
Unknown page