وأخرج عدلي مسدسه من جيبه ولم يتكلم وأطرق عبد الباقي والثورة توشك أن تمزقه تمزيقا، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يخرج من البيت هائما على وجهه، وتاه به الطريق وطال به المسير لا يعرف مكانه من القرية وهي قريته، ولا يعرف قدميه على الطريق وهو طريقه، وكلما آفاق تذكر زوجته الخائنة ومسدس عدلي، فيعود إلى الضياع وينسلخ الليل وتطلع الشمس ولكن الظلام ما يزال يحيط به، ويتلفت حواليه آخر الأمر فيتبين له أن قدميه قد سحبتاه إلى قريب من المدينة.
في المدينة يعرف طريقه، يعرفه في إصرار وحزم، إنه الآن يعرف ما يريد، ويعرف الطريق. - بلغني أنك تسلف. - بفائدة عشرة في المائة. - في السنة؟ - في الشهر. - أعطني عشرة جنيهات. - لكم شهر؟ - حتى أجمع القطن. - لمدة ثلاثة شهور؟ - نعم. - وقع على هذه الكمبيالة. - هات الفلوس. - توقيعك غير واضح. - أوقع ثانية. - خذ الفلوس. - هذه سبعة جنيهات؟! - خصمت الفائدة. - آه، إذن مزق هذه الكمبيالة واكتب كمبيالة أخرى بخمسة عشر جنيها. وسار في طريقه، إنه يعرف طريقه. - أريد مسدسا. - هل معك رخصة؟ - بكم هذا المسدس؟ - إن كان معك رخصة فهو بثمانية جنيهات. - إن لم يكن معي؟ - فهو باثني عشر جنيها. - والرصاص؟ - بجنيه. - اسمع أريد هذا الرصاص مملوءا بضعفي ما يحمله من بارود. - مر علي بعد ساعة.
وحين عاد إلى القرية لم يذهب إلى البيت فما عاد له بيت، ذهب إلى حقله وبات ليلته في العراء.
وفي الصباح راح يهيم على وجهه محاذرا أن يقترب من بيوت القرية حتى اقتربت الشمس من المغيب، فهو يسير إلى بيت مسعود حيث يعلم أن عدلي يسهر كل ليلة، وينتظر مترقبا حين خرج عدلي سار خلفه بضع خطوات، ثم أخرج مسدسه وأطلق منه رصاصة ونظر إليه عدلي هالعا فأطلق رصاصة أخرى وثالثة حتى أفرغ رصاص المسدس جميعه وعدلي واقف على قدميه، لم يتحرك فهو مسمر إلى الأرض شاخص إلى قاتله لا يكاد يحس بقدميه من الهلع، وهذا الرصاص يتدافع من المسدس وعبد الباقي أشد هلعا ودهشا من عدلي. إن الرصاص لا يصيب مقتلا، وحين ينتهي الرصاص يظل عدلي مسمرا في هلعه، ويضيق عبد الباقي إلى موقفه فيسارع بالجري الخائف المفزع، ويظل يجري ويجري حتى تجد قدماه الطريق إلى المدينة ويظل يهيم بها شاردا ذاهلا فما يصبح الصبح وتفتح الأبواب المغلقة حتى يسارع إلى الرجل الذي باعه المسدس. - ما هذا الرصاص؟ - رصاص بلا بارود. - لماذا فعلت هذا؟ - عرفت أنك تريد أن تقتل. - وما شأنك؟ - وعرفت أنك لست قاتلا محترفا. - ليس في العالم شيء يستحق أن تفقد من أجله حياتك أو حريتك. - شرفي. - طلقها. - شرفي. - إن طلقتها سيصبح شرفها هي وليس شرفك أنت. - ويصمت عبد الباقي حينا، ويجلس ويجتذب من أعماقه نفسا بعيد الأغوار. - عجيبة. - ماذا؟ - أحس الآن بالراحة. - حقا؟ - لقد قتلته. - هل قتلته؟ - أنا قتلته ولكن هو لم يمت. - إذن فأنت فعلت ما تريد. - لقد قتلته.
ظل عدلي مسمرا وتقاطر الناس إلى صوت الرصاص فوجدوه واقفا جامدا على موضعه لم ينتقل وراحوا يسألون وهو شارد، ذاهل، هزوه. - قتلني. - ليس بك جرح. - ولكنه قتلني. - من؟
وتطايرت القصة في أرجاء القرى جميعا وأصبح القوم ولا حديث لهم إلا هذا الحادث؛ فإنهم هناك يترقبون مثل هذه الحوادث بشغف، يتسقطون أنباءها ويمضغون حديثها؛ فإنهم هناك لا يجدون الكثير من وسائل التسلية ولا عزاء لهم عن هذا إلا الحديث، لن يتركه عدلي سيجعل من جثته غربالا، ستسمع الكثير في الأيام القليلة القادمة، وستروي الكثير في الأيام القليلة القادمة، ونقول. ونروي ونتحدث ونتسلى.
وتمر الأيام ويزداد التوقع والتشوق وعدلي يعلم أنه لن يستطيع أن يصنع شيئا، إن يده لا تعرف طريقها إلى الطبق الذي يأكل منه إلا بالتحسس، لن يستطيع، لن يستطيع.
ويمر بالناس فترنو إليه العيون في ترقب وتوقع وفي إكبار أيضا؛ فهو الرجل الذي تعلقت به آمالهم أن يمدهم بموضوع للحديث يعينهم على الملالة شهرا أو ربما شهرين، إنهم يتوقعون وهو يعلم أنهم يتوقعون ولكن كيف، لعله يستطيع أن يستأجر قاتلا، إنها إذن النهاية، عدلي الذي عاش عمره جميعا يستأجره الناس للقتل يستأجر هو الآخر. إذن قد مات عدلي.
وتمر الأيام وتصبح أسابيع ما تلبث أن تصبح شهورا ويحس الناس بخيبة الأمل؛ فقد فتر حديثهم عن حادثة عبد الباقي وهم يريدون أن يبدءوا حديثهم عن عدلي، لقد خاب أملهم، خاب أملهم. ولكن عدلي ما يزال يمر بالناس ويلقي التحية، وقد أصبح الرجال يستقبلون هذه التحية بنغمة فاترة؛ فيتظاهر عدلي بأنه لم يلحظ هذا الفتور، ويمر الأطفال فيسعد بالنغمة المرحبة المليئة بالإعجاب والإكبار، ويسعد ويشعر أنه ما زال ذا مجد وشموخ.
حتى كان يوم، يا له من يوم!
Unknown page