فلا تلتفت إلى ما يقال إن الصور والفصول غير المنطقية إنما هى من مقولة الجوهر بحسب اعتبار كونها جزءا للجوهر، وإنما بالقياس إلى موادها أعراض ومن مقولة الكيف؛ فقد علمت أنه لا يقع شئ فى مقولتين بالذات؛ وعلمت أن هذه أيضا ليست بالقياس إلى موادها بأعراض؛ وأن الكيفية تقال عليها وعلى معنى المقولة باشتراك الاسم، لا كقول الجنس، فالجواهر الحقيقية والفصول المنطقية تشترك فى هذه الخاصية؛ إذ هى أيضا جواهر. والفصول المنطقية تشارك الجواهر الثانية فى أنها مقولة بالقياس إلى أشخاص الجواهر قول المقول على موضوع. فهذه الخاصية، أعنى الكون لا فى الموضوع ، إما بالقياس إلى الجوهر المطلق، فخاصية مساوية منعكسة؛ وإما بالقياس إلى الجواهر الحقيقية، التى هى الأشخاص والأنواع والأجناس، فإنها أعم.
وههنا خواص أخر منها ما يرى فى المشهور أنه خاصة لكل جوهر؛ وليس كذلك؛ بل لبعض الجواهر. فهى من الخواص التى تخص المخصوص ولا تعمه. وهذه الخاصية هى أن الجوهر مقصود إليه بالإشارة؛ فإن الإشارة هى دلالة حسية أو عقلية إلى شئ بعينه لا يشركه فيها شئ غيره، لو كان من نوعه. والأعراض لاتعرض لها هذه الإشارة إلا بالعرض؛ لأنها إنما تصير متميزة متكثرة بالجواهر التى لها؛ وكل واحد منها يصير واحدا متعينا لتعين فى موضوعه. فالإشارة الحسية المعينة للموضوع إنما تتناول الجواهر ذوات التميز بالتحيز.
وأما الإشارة المشهورة بأنها عقلية، فإنها تتناول الأعراض أيضا. ولكن إذا تناولتها من حيث معانيها، لم تكن الإشارة التى سميناها؛ لأن معانيها صالحة للشركة؛ وإذا تناولتها وهى بحيث لا تشترك فيها، وهذا هو الذى يجب أن يخص باسم الإشارة، فلا يمكن العقل ذلك، إلا وقد خصصها بموضوعات عقلية مختلفة تكثرت بها الأعراض. وهى متكثرة بذواتها قبل تكثير تلك الأعراض؛ أو متكثرة لأسباب كثرتها قبل تكثر تلك الأعراض، كمواد لها إليها نسبة ما، على ماستعلمه فى موضعه؛ فتكون الإشارة العقلية بهذا المعنى لاتتناول أيضا الأعراض العقلية، إن كانت موجودة، تناولا بالقصد الأول. فالمقصود إليه بالإشارة أى بالقصد الاول بالإشارة، هو الجواهر دون الأعراض.
ولا مناقشة فى أن تجعل الإشارة المذكورة حسية؛ فتكون إلى الجواهر الحسية فقط؛ أو تجعل أعم منها تشتمل على الإشارتين، وإن لم يكن ذلك بالتواطؤ؛ فإن كثيرا من الرسوم والحدود المذكورة لهذه الأشياء سبيلها هذه السبيل؛ لكن هذه خاصية الجواهر الأولى دون الثانية؛ فإنه لا إشارة إلى الكليات إذ لا تعن فيها.
ولا تظن أنك إذا أشرت إلى زيد فقد أشرت إلى الإنسان؛ ففرق بين الإنسان وزيد، وإن كان الإنسان محمولا على زيد. ولولا الفرق لكان أبدا محمولا على زيد فقط، وكان كل إنسان زيدا. نعم الإنسان وسائر الكليات لا تدل على مشار إليه، بل على أى واحد اتفق من المشار إليه؛ فمنها، أى من الجواهر الثانية، ما يعطيها معنى أنية تنفرز به، كالنوعيات؛ ومنها ما لا يعطيها أنية تنفرز بها، كالجوهر الذى هو جنس الأجناس؛ إلا أن يجعل الانفراز، ليس بالقياس إلى المشارك فى الجنس ، بل بالقياس إلى الوجود.
وهذه الجواهر الثانية، إذا أفادت أنية أفادتها أنية ذاتية، وهو إفراز جملة بالذات غير معتبر أنها تحت عام يعمها، أو ليس؛ فلذلك ليست تلك الأنية أنية الفصل، فإن إفراز أنية الفصل إفراز تحت الجنس، وهذا الطريق من الإفراز لا يقال على النوع إلا بالعرض من وجه ما، كما قد علمت؛ أعنى بقولى بالعرض، مالا يكون للشئ أولا بل بسبب غيره، ولست أعنى بقولى بالعرض أن طبيعته لا تفرز بالحقيقة، بل الإنسانية تفرز، ولكن إنما تفرز لأن فيها مفرزا هو الأول فيه.
فالجواهر الكلية تدل على أى من وجهين: أحدهما أنها لا تدل على هذا المشار إليه بعينه، بل على أى واحد كان؛ والثانى أنها تفرز إفرازا جوهريا.
فهذه الخاصية المنسوبة إلى الإشارة خاصية للجوهر على سبيل أنها لا توجد إلا فى الجوهر، وإن كانت لا توجد لجميع الجواهر؛ فيكون وجه تخصيصها بأن يقال إن الجوهر من المقولات هى المقولة التى توجد فى الأمور التى يشتمل عليها هذا الشرط، كما يقال الكعبة خاصة لمكة لا على أن جميع أجزائها الكعبة، بل على أن بعض أجزائها الكعبة؛ ولا كذلك المدينة.
Page 84