Shicr Wa Fikr
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
كان من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرا ممكنا ومقبولا ومفيدا؛ إذ كان هدف الناقد والشاعر أن يخطبا ود القارئ، ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافا كبيرا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان - جون - بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني المتصلة بعالم هذا الشاعر أو ذاك. فأسلوب الأداء هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء سواه. فنحن لا نستطيع الآن كما كان الحال قديما أن نشغل أنفسنا بمضمون القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير عن هذا المضمون؛ لأن التباين بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه قد أصبح من أهم قوانين الشعر الحديث. هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة، حتى كاد يجرد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها، بل من وجودها نفسه. فالقصيدة تتحاشى الاعتراف «بموضوعية» العالم الواقع خارج الذات أو داخلها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي الخارجي، فهي إنما تستخدمها أداة لتحريك المخيلة ودفع طاقتها على التحوير والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلا. وحتى إذا حدث هذا، فلا يمنع أن تكون هناك قصائد تزدحم بالموضوعات والأشياء تخضع الآن لتركيبة جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها طاقة الذات الشاعرة، وقدرتها على التخيل، وفقدت كثيرا جدا من «موضوعيتها وشيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع والطبيعة، ويرمز إلى أشياء لا يتطابق فيها الرمز والمرموز إليه ، ويشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق.
أسلوب الشاعر الجديد إذن يأبى على المضمون أن يكون له وجود متماسك وقيمة في ذاته. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة. إنه يريد كما يقول أبوللينير (1880-1918م)، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئا، ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
يقول «أراجون» (1897-1942م) في مقدمة ديوانه «عيون إلزا»: إن الشعر لا وجود له إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة، وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: «ليست لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز.» وفي قصيدة «إليوت» المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة، وكلمة بلا لغة». وسان - جون - بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه، فيشبهه بالبرق والصاعقة، وكأنما يتفق هؤلاء الشعراء جميعا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغة مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألح الشعراء والفنانون الجدد على كلمة الصدمة أو المفاجأة، حتى صارت تعبيرا اصطلح عليه الفن الجديد من عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت تثار مشكلة الصدمة كل خمس سنوات. وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثرا عليه تأثير الصدمة المفاجئة عند قراءته لأول مرة. والسيرياليون يتحدثون عن «الأذهال» الذي ينبغي أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو إعلان للتمرد والاحتجاج، كما يقول سان - جون - بيرس (1887م) أن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي. وكأني بهذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسع إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالي إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والموضوع والمضمون، ويستوي معه أن يتناول خلود الروح، أو يصف حذاء قديما أو علبة صفيح فارغة. (3) اللغة سحر وإيحاء
من خصائص الشعر الحديث أنه أصبح منذ عهد رامبو ومالارميه نوعا من السحر اللغوي. وكثيرا ما تظهر فكرة الإيحاء في كتابات النقاد في القرن العشرين في كلامهم عن التأثير الشعري. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» (1889م) قد جعل منه عنصرا أساسيا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» طاقات وإشعاعات روحية يؤخذ القارئ بسحرها، وإن لم يفهم منها شيئا. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة، أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تحدثها مجموعة الترابطات الشاذة بين كلمات لا تجمع بينها صلة ظاهرة ولا مألوفة. فمثل هذا الشعر الإيحائي الذي يعتمد على سحر اللغة يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل البشري وأول أسبابه. إنه لا يعتبر العالم حقيقة واقعة؛ لأن الكلمة وحدها هي الواقع بالنسبة إليه. ومن هنا نفهم ما يقوله بعض الشعراء المحدثين - مثل ماكليش - من أن القصيدة لا تدل على شيء، بل توجد أو تكون. ومعظم الشروح والتعليقات التي تقدم لما يسمى ب «الشعر المحض» تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئا بقوة النغم الكامنة في اللغة والسابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع بعدئذ أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئا ثانويا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن» من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن الشاعر لا يكون قد عرف نصه اللغوي بعد، ولعل شعر «بن» نفسه أن يكون من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة، وسبق الصوت على المعنى. ولعل هذا المبدأ هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر، وجعلها مع ذلك شاعرية.
وفي شعر رامون خيمينيز (1881-1958م) وهنري ميشو (1899م) وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري - بل المغناطيسي في بعض الأحيان - الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها، بحيث تخلق توافقات إيقاعية وتركيبات موسيقية تنفذ مباشرة إلى الأذن، وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر يعتبر اللغة طاقة نغمية قبل كل شيء. ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجوين الإسباني. (4) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن أن نسميه بالشعر اللامنطقي، شعر الهواجس والأحلام و«الهلوسات» الصادرة عن حياة اللاشعور الباطنة. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون برامبو ولوتريمو (1846-1870م) وعلوم الأسرار وكيمياء المعادن القديمة وكتابات اليهود المعروفة بالقابالا. فشعرهم هو شعر الأحلام - بالمعنى النقي لهذه الكلمة - سواء أكانت أحلاما ترى في النوم أم أحلام يقظة تصطنع بالعقاقير والمخدرات. وذات الشاعر في هذا الحلم الشعري الذي يخلقه الخيال، أو يرى في المنام ذات منسلخة عن الواقع تؤمن بأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وهبت له وحده.
فالشعر اللامنطقي يستفيد إذن، مثله في ذلك مثل الشعر العقلي، من قدرة الإنسان على تخيل الصور غير الواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى تلك الصور من أعمق طبقات الحلم، ولا يتدخل في ترتيبها. إن الإنسان عند شعراء الحلم، كما يقول بريتون، ليس وحشا ذهنيا، ولكنه - بفضل أبحاث فرويد ويونج - كائن ينطوي على قوى مظلمة مجهولة تكمن في أعمق أعماق وجدانه. وتفسير «يونج» للأدب بوجه عام، وللشعر بوجه خاص أنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أولية» تعيش في اللاشعور الجمعي، وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق خلاله هذه الرؤى. وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عملية ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق القدم.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره على السيرياليين ورائدهم الأول أبوللينير. فقد كتب في سنة 1908م شعرا منثورا بعنوان «أونيرو كريتيك». (عن عنوان الكتاب القديم الذي ألفه أوتيمدور في تفسير الأحلام) ولا بأس من ذكر بعض سطور من هذا النص، اخترناها حيثما اتفق؛ لأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا. وسنجد أن أبوللينير يجمع صورا لا واقعية ونتفا من الأحداث التي صفها إلى جانب بعضها بغير رابطة تجمع بينها، بحيث يستطيع القارئ أن يعيد ترتيبها على نحو آخر. وإذا كانت هناك ثمة رابطة بين الصور والأحداث، فيمكن أن نسميها «التحول اللامعقول» الذي يشبه ما يحدث في الأحلام. فالرأس تتحول إلى لؤلؤ والأنغام تتحول إلى ثعابين. ولن تقابل إنسانا بمفرده في هذا العالم، بل حشدا من الناس. وليست الصور وحدها قريبة من الأحلام، بل كذلك طريقة التعبير. إنه عالم أحلام يزدحم بالجنون، والقبح، والجريمة: «كانت قطع الفحم في المساء شديدة القرب مني، بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. تزوج حيوانان غير متكافئين، وأصبحت فروع الكروم عناقيد مثقلة بصور الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب، وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. وأقبل عشرون خياطا أعمى. وقرب المساء طارت الأشجار هاربة، وحولت نفسي إلى مائة شخص. القطيع الذي كنته سقته إلى البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملاح قتلوني تسعا وتسعين مرة. وشعب كامل ضغطوه في المعاصر، راح ينزف دما وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار، في المدن وفوق ثلوج الجبال.»
ومع أن السرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن، فإن برامجهم تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا منذ عهد «رامبو» على تأكيد لون من ألوان الإبداع في الشعر حشدوا في سبيله لغة أقرب ما تكون إلى لغة الحلم. ففي رأيهم أن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حد، وأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالما فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب والشعر، وأن اللاشعور هو الذي يوحي بالشعر والأدب دون التقيد بقيد ولا شكل. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن السرياليين يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن، وبين الإفزاع والإبداع. ولا يستطيع منصف أن يذكر لهم شعرا عظيما، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين، مثل أراجون (1897م-...) وإلوار (1895-1952م)، لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في عالم الأدب منذ عهد رامبو، وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببا، وأنها شكل واحد من أشكال عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما يزال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يشهر بهم ويمجدهم في آن واحد، فيصورهم كالسائرين نياما. (5) بين الحداثة والتراث
Unknown page