Shicr Wa Fikr
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
وكل هذا يعبر كما قلت عن اقتناع أكدته تجربة حياتي وعملي العقلي والوجداني، سواء في الفلسفة التي أعيش من تدريس تاريخها منذ ما يقرب من ربع القرن، أو في الأدب الذي بدأت طريقي فيه بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والمقالة، وما زلت أكافح للاستمرار في السير عليه على الرغم من كل المرارات والمعوقات.
ولقد ازداد ميلي في السنوات الأخيرة إلى الاعتقاد بأن الفيلسوف يمكن أن يكون في صميمه فنانا وأديبا انتزع الفكرة المجردة من إطارها المحسوس، وقنع بالنواة الجافة دون الثمرة الحية، وأن الفنان والأديب في حقيقته فيلسوف كسا الفكرة بالصورة الحسية وأحياها بالعاطفة الجياشة. لست أريد من ذلك أن أخلط بينهما، فلكل طريقته ورؤيته ومنهجه بطبيعة الحال، ولن يرضى الفيلسوف أن نجعله شاعرا أو أديبا، كما لن يسعد الأديب والشاعر أن نحشره مع الفلاسفة في نظام أو نسق فلسفي محدد، ولكن المقصود أن التفاعل بينهما عميق وأكيد، وإن يكن غير مباشر وشديد التعقيد، وأنه قد آن الأوان لرفع الحواجز السميكة، وإزالة الأسلاك الشائكة التي طالما فصلت بينهما (راجع المسألة من جوانبها المختلفة في ليوناردو والفلاسفة وبين الشعر والفلسفة، وتأمل كذلك بعض جوانبها في الدراستين المترجمتين اللتين تعالج إحداهما قضية العلم والعلمانية في واحدة من أخطر الروايات العربية الحديثة، وقضية الرؤية وتعلمها من المنهج الظاهرياتي والفلسفة الفينومينولوجية عند مؤسسها هسرل).
والواقع أن الأمر - فيما يخصني على الأقل - لم يكن محاولة لجعل الفكر شاعريا أو وضع الشعر في قوالب الفكر. لقد كان في الحقيقة أبعد ما يكون عن التعمد والقصد؛ لأنه ظل على الدوام نزعة تلقائية تحكمها عوامل التكوين والطبع والمزاج بجوانبها البيولوجية والثقافية ... ومحاولاتي في الكتابة الفلسفية عن أفلاطون على سبيل المثال في صورة الخاطرة الشاعرية، أو عن الحكماء السبعة في صورة لوحات درامية، بجانب محاولات أخرى في كتابة الخاطرة والمقالة الفنية والقصة والمسرحية والبكائية، قد لا تعبر فحسب عن الصراع الذي عانيته، وما زلت أعانيه بين الفلسفة والشعر، وبين العلم والإبداع، بل ربما تجاوزت ذلك إلى محاولة التجريب في الشكل وتأصيله، ومواصلة المحاولة التي بدأها روادنا الإحيائيون لمد الجسور بين جذورنا التراثية التي نتشبث بها والتجارب العالمية التي نحرص على استيعابها والإفادة منها. ولذلك فإن المحاولات التي تطل عليها اليوم - مهما يكن الرأي في جدواها وفي قدرتها أو عجزها عن التغيير والتأثير - هي في الواقع جزء لا يتجزأ من محاولات جيل أتشرف بالانتماء إليه، جيل أخلص الجهد في هذه المواجهة الحضارية المستمرة، وسواء لقي الجحود والنكران، أو حظي في حياته أو بعد موته بشيء من العرفان والتقدير، فالأهم من ذلك في ميزان الحقيقة الحرة المنصفة أنه أخلص وصدق، وحاول أن يتقن عمله قبل كل شيء، ويجود بالعطاء دون أن ينتظر الجزاء.
إن الكاتب يقدم شهادته على الحقيقة بقدر ما يسعه من الجهد، وفي هذا الكتاب شهادة واعتراف، ستشعر بهما خصوصا في الحوار والشهادة اللذين رأيت من واجبي ومن حق التاريخ أن أضيفهما للكتاب. وإذا كانت هذه الشهادة لا تخلو من الأسى والحسرة على جدوى الكلمة التي لم تتحول بعد إلى فعل قادر على التغيير، ولم تجد حيلة - أمام سقوط القيم وظواهر الانهيار والانتحار الحضاري التي لم تعد خافية على أحد - سوى أن تلجأ إلى الهمس والمناجاة، فإنها لا تركن لليأس، ولا تعدم الإصرار على الأمل في تجاوز الواقع المشوه السائد إلى واقع آخر ممكن، ولا بد من المغامرة والتجريب لتحقيقه. وهذا الكتاب بتجاربه المتواضعة يشارك في السعي لتحقيق الأمل المشترك.
وهل الحياة والفن والأدب والعلم في النهاية إلا تجارب ومحاولات؟
القاهرة في أغسطس 1987م، عبد الغفار مكاوي
ثورة الشعر الحديث
ملامح وخطوط
1
قصيدة الشعر كائن لغوي حي، يدين لصاحبه بالوجود، كما يدين للعصر الذي عاش فيه، والجو الفكري والحضاري الذي تنفس هواءه. والعصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ثم مضى الإنسان في صراعه المستمر للانتصار على الطبيعة، واستغلالها وتجريدها من أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية، وسباقه على غزو الفضاء.
Unknown page