Shicr Wa Fikr
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
التي حبسوا فيها خطاهم، أخذوا يبينون لهم هول الخطر الذي يتهددهم لو حاولوا السير بمفردهم. بيد أن هذا الخطر ليس كبيرا كما يدعون؛ لأنهم سيتعلمون في النهاية كيف يسيرون على أقدامهم بعد أن يتعثروا عدة مرات، ولكن مثلا واحدا يضرب لهم على بعض من سقط في الطريق كفيل بأن يخيف الناس، ويصدهم عن الشروع في أية محاولة أخرى.
من العسير إذا على أي إنسان أن يتمكن بمفرده من التخلص من هذا القصور الذي أوشك أن يصبح طبيعة ملازمة له. بل إن الأمر قد وصل إلى حد أن يعشق هذا القصور، بحيث أصبح عاجزا عجزا حقيقيا عن استخدام عقله؛ لأن أحدا لم يتح له أبدا أن يقوم بهذه المحاولة. وبقيت التعليمات والقواعد - هذه الوسائل الآلية لتلقينه كيفية الاستخدام المعقول لمواهبه الفطرية - بقيت هي أغلال القصور المستديم، وكل من تمكن من التحرر من هذه الأغلال لم يستطع أن يقفز فوق أضيق الحفر إلا قفزة غير مطمئنة؛ وذلك لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. ولهذا لن نجد إلا قلة ضئيلة استطاعت بفضل استخدامها لعقولها أن تنتزع نفسها من الوصاية المفروضة عليها، وتسير بخطى واثقة مطمئنة.
ومع ذلك، فإن قيام الجمهور
4
بتنوير نفسه هو أولى الأمور وأقربها إلى الاحتمال، بل إنه - إذا أوتي الحرية التي تمكنه من ذلك - لأمر لا مناص منه تقريبا. إذ سيتوفر في هذه الحالة - حتى بين أولئك الذين عينوا أوصياء على عامة الناس - عدد ممن يفكرون بأنفسهم وينشرون حولهم، بعد أن ينفضوا عن كاهلهم نير الوصاية، روح التقدير العقلي لقيمة كل إنسان وواجبه في أن يفكر بنفسه. والأمر الجدي بالنظر في هذه الحالة أن الجمهور الذي سبق أن وضعوا هذا النير على كاهله سيجبرهم بنفسه بعد ذلك على البقاء تحته، عندما يحرضه على ذلك بعض أوصيائه الذين تعوزهم القدرة على التنوير، ولهذا كان غرس الأحكام المتحيزة أمرا بالغ الضرر؛ لأنها تثأر في النهاية، حتى من أولئك الذي تسببوا هم أو أسلافهم في غرسها. ولهذا السبب أيضا لا يمكن أن يصل الجمهور إلى التنوير إلا ببطء شديد. وربما نجحت ثورة في القضاء على الاستبداد الفردي والقهر القائم على الجشع والتسلط، ولكنها لا يمكن أبدا أن تؤدي إلى إصلاح حقيقي لأسلوب التفكير، بل إن ما يستجد من أحكام متحيزة لن يستخدم - شأنه في هذا شأن الأحكام القديمة - إلا في تضليل عامة الناس وجرهم وراءه.
لكن مثل هذا التنوير لا يتطلب شيئا غير الحرية، وهو في الحقيقة لا يتطلب إلا أبعد أنواع الحرية عن الضرر، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور.
بيد أنني أسمع أصوات المنادين تتردد من كل جانب: لا تفكروا،
5
فالضابط يقول: لا تفكروا، بل تدربوا. والخازن يقول: لا تفكروا، بل ادفعوا. ورجل الدين يقول: لا تفكروا، بل آمنوا (إلا سيدا واحدا في العالم
6
Unknown page