وتفكر قليلا ونحن نتابعه بعواطفنا المتناقضة ثم قال: المأساة، ولعلها ليست بمأساة، أنه ما من جديد يجد إلا ويجيء معه بقدر من الحرية وقدر من الاستعباد الجديد، فالآلة تحرر اليد وقد تأسر الروح، السلع الجديدة تشبع وتمتع وقد تحجب عن الإنسان مصيره، الإقطاع حرر من قطاع الطرق وفرض الرق، الليبرالية حررت المواطن من الحكم المطلق وجاءت بالاستغلال الاقتصادي، الاشتراكية حررت الإنسان من الاستغلال وسيطرت عليه بالبيروقراطية أو الدكتاتورية، ولذلك فلا نهاية للمعركة ولا للابتكارات ولا للمذاهب حتى يظفر الإنسان بحريته الكاملة ويصبح قولا وفعلا سيد مصيره، لذلك علينا دائما وأبدا أن نكون مع كل جديد بقدر ما يعد من حرية، وأن نكون على استعداد للتخلي عنه كلما جد جديد أفضل أو رجحت كفته السالبة.
ونقل ضوء عينيه بين وجوهنا ثم ابتسم بارتياح ومضى يتساءل: ولكن ما دور الفرد - كفرد - في هذه المعركة لكي يحرر إرادته ويحسن الاختيار؟
وبعد لحظات من الصمت أجاب: عليه أن يقتنع بأن «الذاتية» هي سبيل العبودية، وأن الموضوعية هي سبيل الحرية، الاختيار الحر يقوم على الموضوعية، وإلا أذعنا إلى غريزة ونحن نتوهم أننا نمارس عاطفة، أو سايرنا عاطفة ونحن نعتقد أننا نلبي العقل، ولكي يحدث الانسجام والتوازن بين الغرائز والعواطف والعقل فلا بد من تربية الإرادة تربية تبلغ بها ذروة القوة، وبكل إنسان سليم من الصبر ما يستطيع به أن يربي إرادته ويتغلب على ضعفها وتراخيها، في الإنسان قوة كامنة تضارع قوة الذرة.
وأغمض عينيه قليلا ثم فتحهما قائلا: أتذكر النظرة الذاتية للكون التي جعلتنا نتصور أننا مركزه؟ أتذكر النظرة الذاتية للمجتمع التي تغريك بالدفاع عن طبقتك وأنت تتخيل أنك تدافع عن الإنسانية؟ أتذكر النظرة الذاتية إلى المرأة التي تدفعك إلى الإيمان بسيادة الرجل وأنت تعتقد أنك تبشر بطبيعة الأشياء؟ اتجه نحو الموضوعية متحررا من أي عبودية، عند ذاك تمارس الاختيار الحر، وتمضي في سبيل السيادة الحقيقية، وتقترب خطوة خطوة من طريق الأشواق الأبدية المضنون به على غير الأحرار.
9
قالت أفكار وهي تتثاءب: أكون مجنونة لو حضرت مجلسه بعد الليلة.
وقالت نبيلة: إنه مثير ولكنه سيتقلب مضجرا.
وقال لي وفيق: إنه مجنون فيما أرى، ما رأيك بصراحة؟
فقلت متظاهرا بالمرح: لم يعد لي من تسلية سواه.
فقال بحنق: لقد أجنه الفشل، كان الله في عونك.
Unknown page