أثارني حديثه لدرجة لم أقدرها. لم تكن لتحدث في ظروف أخرى. عدت أسمع صوت الزمن. فيما مضى كنت شريكه في الاطلاع والفكر. اليوم أصبحت مجرد مستمع ذاهل. ماذا أكون وماذا تكون أسرتي؟ أحرار أم عبيد؟ بدا السؤال مضحكا. السوق، المكتب، النقود، الثرثرة، التحف، القمار. هل أمضي من المرض إلى احتقار الذات والأهل؟ ترى هل يمكن تربية الإرادة؟ هل يمكن تربية الإرادة بالإرادة؟ التغيير أهم من القراءة والرؤية والسماع. إني أسمع وأرى وأقرأ ولكن ما جدوى ذلك؟ هل يجاوز التسلية العابرة وقتل الوقت؟
وامتعضت امتعاضا شديدا. عز علي قلقي واضطرابي. بوسعي أن أنسى ما سمعت، أن أقطع الصلة الجديدة، أن أهزأ منه. ولكن وراء السطح المحتدم قبعت لهفة تتشوق إلى عودته. لقد جلا الصدأ عن نفسي وبعث الشخص القديم. - ألا يعد صوته إغاثة للمريض من وحدته؟
10
انفعلت انفعالا سعيدا متجددا بزيارات جلال أبو السعود الدورية. وسعدت بصفة خاصة لانفرادي به بعد أن أضربت الأسرة عن شهود مجالسنا. وعاصرنا الخريف بجوه المنعش، وشمائله العذبة، وألوانه البيضاء، ونفثاته الموحية، فهو ربيع وطننا بلا شريك، ولدى أول زيارة انفرادية قلت له دون حذر من رقباء: والله زمان!
فألقى نظرة على الحجرة الخالية وتمتم ضاحكا: هرب المستمعون! - هذا أفضل.
فقال بأسى: يندر أن يطيب حديثي لأحد ولكني لا أكف عن الكلام.
ذلك ما أعده من حسن حظي. إنه يتحدث عن تجربة شخصية حميمة، عن معركة يخوضها بكل قوته، وبتصميم رائع على تحدي اليأس.
وذات مرة قلت له: أتذكر الحكمة التي قرأناها معا في ماضينا «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»؟
فحنى رأسه الأصلع بالإيجاب فقلت: أحاديثك المثيرة أعادتها إلى وعيي.
فقال باهتمام: أعتقد أننا فهمناها على غير حقيقتها. - لكنها واضحة تماما. - لا أوافقك، يجب أن تكون دعوة للموت في هذه الحياة التي نحياها!
Unknown page