Shawqi Sadaqat Arbacin Sana

Shakib Arslan d. 1368 AH
122

Shawqi Sadaqat Arbacin Sana

شوقي: صداقة أربعين سنة

Genres

حضرة صاحب مجلة سركيس

سألتموني رأيي في الشعراء؛ فأشعر الشعراء عندي هو محمود سامي ثم شوقي ثم حافظ، وهؤلاء الثلاثة في هذا العصر هم السابقون في حلبة الشعر الفائقون في إجادته، بل هم أشبه بالثلاثة الماضين أبي تمام الشعر ومتنبيه وأبي عبادته، بل هم اليوم لات الشعر وعزاه ومناته، والذين رجحت لهم على غيرهم بيناته، وأحب أن أشبه البارودي بأبي تمام في علو نفسه وقوة ملكته ومتانة أسلوبه، وأن أشبه شوقيا بالمتنبي في دقة معانيه وسمو حكمه وكثرة جوامع كلمه، كما أن حافظا يشبه البحتري في سلاسة لفظه وحسن سبكه وتأثيره في النفس، وهو وإن لم يعل علو شوقي في بعض أبياته، فإن عامة شعره أطلى من عامة شعر شوقي، وغاية ما يقال فيهما أن جيد شوقي أحسن من جيده وأن هذا أعلى وذاك أطلى.

وأما كون أسلوب شوقي ركيكا فهو غير صحيح، وهذا القول في حق شوقي هو أشبه بالقول الآخر في حق حافظ بأنه صانع ماهر وأن حيلته أكثر من شعره، وعندي ألف شاهد لولا خوف الإطالة لأوردتها على متانة أسلوب شوقي وتسنمه غارب العربية، كما أن لي بقدرها على قدرة حافظ الحقيقية وأنه شاعر مطبوع الفصاحة فيه سجية لا تلهوق، وأن مثل حافظ في الشعراء قليل. نعم إن شعر شوقي ليس طبقة واحدة حتى لا يخاله القارئ نسجا واحدا، وهو يذهب مذاهب غريبة أحيانا وربما أتى في كلامه بالتعقيد، وهذا من وجوه الشبه بينه وبين المتنبي الذي كان كأنه يعمد إلى الإغراب في بعض المواضع فيأتي بالغث كما يأتي بالسمين.

وإنما استحق أبو الطيب هذه الشهرة مع هذه الهنات؛ لأنه كان متى أراد بذ الأولين والآخرين، وأنه متى علا لم يزاحمه أحد بمنكب، وأن الذي يحفظ من كلامه لا يحفظ من كلام شاعر سواه حتى صار شاعر العامة فضلا عن الخاصة. وهذا ما أراه في شوقي اليوم فإن عيون شعره لا يقدر على مثلها حافظ ولا غيره، وقد يحلق في سماء الخيال أحيانا حتى يفوق البارودي نفسه، وهو عندي حامل اللواء وأبو الجميع.

ولا يمكننا أن نسلم بركاكة أسلوب شوقي إلا على مذهب من يرى المذاهب الجديدة في الشعر ولا يريد الشعر إلا كاظميا، ومذهب من يرى في موافقة ذوق العصر مفارقة المناهج العربية، وهذا الرأي ليس بجديد بل هو قبل صاحب المنار. وقد كان بعضهم يعيب على المتنبي نفسه الحيد عن جادة العرب في شعرهم وفي مقدمة ابن خلدون أن المتنبي والمعري لم ينسجا على أساليب العرب، ولكن لا يمكننا أن نقول إن هذا هو الرأي كله، وأنه جف القلم بعد هذا القول، بل لكل رأي ولكل وجهة.

وأحسن ما قيل في شوقي إنه في الشعر كأبي مسلم في القواد أقام دولة وأقعد دولة، فإنه نسج على منوال جديد وانتهج خطة حديثة تلائم روح الوقت الحاضر لكن مع الوفاء بحق اللغة والأمانة مع العربية، ولولا متانة لغة شوقي لما عد شاعرا أصلا؛ لأن نقاوة اللغة هي الشرط الأول للشاعر والكاتب، والمعاني وحدها لا تكفي، ولا ينهض بركاكة اللفظ علو المعنى، وهذا أمر اتفق عليه العرب والعجم.

ومما أعجبني جدا في نعت شوقي أن شعره لوح الصبي في مكتبه وسبحة الناسك في صومعته وكأس الشارب ودمعة الباكي ... إلخ، فكل هذا القول في شعره حق؛ لأنك تجد شعره بستانا فيه من كل الرياحين أو على رأي أهل العصر معرضا فيه من كل البضائع.

ومما يطيب سماعه عن شوقي وهو يتعلق بالأخلاق لكنه من رشح إناء الفضل قول القائل: إنه صفت نفسه فلم يستشعر في نفسه عيبا يحتاج إلى ستره بتنقص غيره، وعلت همته فوقف بين حساده وقفة رابط الجأش يناضلهم بسكوته وإغضائه. ولعمري إنها عبارة شعرية لو نظمت لكانت من أحسن الشعر، وأحسن ما فيها مطابقتها الواقع، فلا ينكر أحد هذه الحال على شوقي وأنه لا يقابل حساده والطاعنين عليه إلا بالسكوت، وهو أحيانا أقتل من الكلام. على أنه في الواقع غير ساكت فإذا لم يجاوب منتقده رأسا جاوبه من جهة ثانية بقصائده إلى الجمهور، فترى بإزاء كل «همزة من تلك الهمزات وحرف من هاتيك الحروف» كل قصيدة يقام لها ويقعد وكل بيت أذن الله أن يرفع ويشيد.

أما القول بأن محمود سامي هو مقلد، شأنه معارضة الأولين، وهيهات أن يلحق واحدا منهم فهو شبيه بالقولين الأولين في الظلم، وإنما اختار المعارضة في بعض المظان ليعلم الناس شأوه مع من تقدمه. وليست المعارضة بشأن جديد بل كانت عند الماضين وقد استحسنوها ولم يحسبوها تقليدا ولا عدوها نسخة محررة ولا صورة مطبقة، وإنما كان ينظم الواحد قصيدة ترن في الآفاق فيعارضه شاعر آخر برنانة أخرى من البحر والقافية كما يجاري الفارس فارسا في مضمار. وهذه قصيدة أبي نواس الرائية في الخصيب عارضها ذلك الأندلسي قبل محمود سامي، وكل منهما أجاد، ولم يقل أحد إن الأندلسي مقلد لا مزية له وإنه إنما صور صورة كانت أمامه، فمحمود سامي قد عارض وفاق من تقدمه وقال في غير معارضة، فأتى بالشعر الفحل الذي يعيى على الأوائل فضلا عن الأواخر. وكل ذي مسكة يقدر أن يميز بين التقليد والتوليد، ولا يجب أن يؤخذ من كلامي هذا في تفضيل الثالوث الشعري الاستخفاف بقدر الباقين، فإن الذين فضلوا حبيبا والمتنبي والبحتري لم يحصروا الشعر فيهم، ولا ازدروا سائر الشعراء، ولكن لسان حالهم يقول:

محاسن أصناف المغنين جمة

Unknown page