Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
20
ثم تقوم أمم أقل استكمالا لهذه المزايا، إلا أنه يكون فيها جرثومة ارتقاء أعلى، فلا تلبث أن تبلغها وتزيد عنها، فالتقهقر ليس سوى ظرف مكان وزمان بخلاف الارتقاء، فإنه مستمر وعام. وإن كان ارتقاء الأمم الحديثة متوقفا على قيامها على آثارها، مستعينة بمتروكاتها، مغتذية بها، بدون أن تكون استكمال اتصالها. فأوجه الشبه في ذلك واحدة أيضا مع الطبيعة؛ لأن المجاميع العضوية الحديثة تأخذ معظم ارتقائها من الارتقاء العالي الذي بلغته في تقدمها بدون أن تتصل به رأسا، وأما باقي الأجسام الحية الموجودة اليوم في الطبيعة كما كانت في الماضي (كالجرابية وكثير من أنواع السمك)، والتي بعد أن بلغت مبلغا معلوما من الارتقاء، وقفت ولم تتقدم، فلنا في تاريخ البشر ما يحاكيها أيضا؛ فإن مملكة الصين القديمة العهد في التمدن بعد أن بلغت منه ما بلغت منذ زمان قديم وقفت، ولم تزل واقفة لا تتقدم حتى اليوم، وربما لم يعد في طاقتها أن تتقدم، فهي ستهلك مع الزمان من دون ريب.
21
وقد شبهوا الارتقاء البشري الذي ليس هو حقيقة حسب مذهب التحول إلا استمرار ارتقاء العالم العضوي منذ الأزمان الأولى، بلولب صاعد يظهر بدورانه أنه يتقهقر، والحال أنه يرتفع دائما، وعلى نوع منتظم، ويمكن تشبيهه بالشجرة على ما ذكر فيما مر؛ إذ تنبت أغصان جديدة على أغصان قديمة، وكل نابت جديد أكثر قوة، وأعلى مما نبت عليه،
22
وربما شبهوه بغير ذلك أيضا.
وهذا الارتقاء لا يتم بسرعة، بل ببطء كلي. وكما أن تاريخ العالم الماضي لا يحسب إلا بالملايين من السنين، هكذا أسباب الارتقاء لا تتيسر إلا مع الزمان الطويل جدا. ولكن ما هو الزمان بالنظر إلى السير الطويل في الطبيعة والتاريخ، فالإنسان يبخل بالدقائق؛ لأنه يرى نفسه يقترب من نهايته ساعة عن ساعة، ويوما عن يوم، وأما العالم فيسير من الأزل وإلى الأبد، والملايين من السنين كيوم واحد فيه.
وللفروغ من هذا الباب لا بد من التنبيه إلى أن مبدأ التربية يكون أشد وأقوى كلما كانت الصور الفاعل فيها أكمل. وسبب ذلك بسيط وواحد في الطبيعة والتاريخ، فكلما كان التكوين وأحوال الحياة الخارجية أكثر اختلافا، كان العقل والاحتياجات والأفكار وكل ما يتعلق بها أعلى مطلبا، وكانت المهيجات ووسائط التكميل أكثر وأقوى كذلك. قال ليل في ذلك ما معناه: إن الارتقاء الصناعي والعلمي في عصرنا هو على نسبة هندسية مع التمدن والمعارف العمومية، وينقص على نفس هذه النسبة كلما تقهقرنا في الماضي، بحيث إن التقدم الحاصل في عشرة قرون في الماضي لا يقتضي له أكثر من قرن فيما يأتي بعده. وقال أيضا: إن الإنسان في القديم كان يشبه الحيوان أكثر جدا بالميل الغريزي لأن يتقلد كل فرع من فروعه الفرع الذي تقدمه؛ أي يشبهه بميله للوقوف. وإذا قابلنا تقدم المدن بتقدم القرى نرى أن الأشياء تسير فيها على نفس هذا الناموس؛ فإن القرى لقلة المهيجات الداخلية والخارجية فيها ترى أنها شديدة الحرص على الأشياء المقررة، كثيرة الاحترام لنظامها.
فلا غرو أن مر على الإنسان في العهد السابق التاريخ ألوف من السنين، وربما ألوف من القرون قبل أن بلغ درجة راقية من التهذيب أو صار له تاريخ فقط، وأما بعد ذلك؛ أي بعد أن رسخت قدمه في التمدن، فصار ارتقاؤه أسرع فأسرع يوما عن يوم. وما قيل عن الإنسان صحيح أيضا على سائر العالم العضوي؛ فإن الارتقاء في الحيوان لا يكون واضحا ومنتظما وسريعا، إلا فيما كان منه أكمل من غيره، كذوات الفقر وذوات الثدي خاصة . وأعظم ارتقاء في الطبيعة والتاريخ هو ما حصل في الإنسان؛ إذ تفلت من الأصول العليا لذوات الثدي حتى صار بينها وبينه بون شاسع. ولا نستغرب هذا الفرق بينهما؛ لأن من أمكنه أن يقطع العقبة الموصلة إلى الإنسان لا شك أنه قابل لضروب متنوعة من الارتقاء، وبعد أن سار على طريق التمدن صارت كل خطوة من خطواته تبعده أكثر فأكثر عن صورته الأولى.
Unknown page