Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
والأستاذ هكسلي يقول كذلك: إن الفرق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان في الكم فقط - أي في العدد والحجم - وهو أقل مما بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا، والفرق على رأيه أعظم بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى منه بين أدنى الناس وأعلى الحيوانات. وعنده أن الأنثروبولوجية أو علم الإنسان ليس إلا فرعا من الزولوجية أو علم الحيوان.
وعليه فلا يوجد فرق جوهري بين الإنسان والحيوان ينفصل به الواحد عن الآخر انفصالا تاما، لا في الجسماني ولا في الروحاني أو العقل؛ لأنه لا شبهة اليوم في أن الدماغ عضو الفكر، وأن العقل يختلف بحسب كبر الدماغ وشكله ووضعه ونموه؛ أي إن الإنسان والحيوان سيان جسمانيا وروحانيا، والفرق بينهما في النمو والارتقاء فقط.
على أنه يوجد كثير من الفلاسفة واللاهوتيين والطبيعيين لا يسلم بأن الإنسان حيوان إلا في الجسماني فقط، وأما في الروحاني فهو غير خاضع لنواميس الحياة الحيوانية.
ونجيب على ذلك بأن المقابلة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان القريب منه تؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي إليها تشريح المقابلة. ويعرض للفلاسفة ولأصحاب ما وراء الطبيعة عندما يحاولون بيان الفاصل بينهما نفس الصعوبات التي تعرض للمشرحين، فلا يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان عقليا، كما أنه لا يوجد جسديا؛ فإن أعلى قوى الإنسان العاقلة موجود جرثوميا في أدنى طبقات الحياة، وأرفع حاساته وأقواها ، كالمحبة والمودة واللذة والألم والحقد والحزن ... إلخ موجود في الحيوان أيضا، فكل ما يتميز به الإنسان من الصفات النبيلة موجود في الحيوان في حالة موعود بها، والفضل في ارتقائها فيه إلى ناموس الانتخاب الطبيعي. فالإنسان لا يتميز عن الحيوان إلا بكون الصفات المشتركة بينهما أبلغ فيه وأظهر، وببقاء الأنسب أرقى،
6
وهذا الذي جعل القوى العقلية فيه تقوى على الأميال السافلة والشهوات الفاسدة.
ولا ينبغي أن يظن من ذلك أن هذه القوى العاقلة غير موجودة في الحيوان، كلا، فالحيوان يقابل، ويستقري، ويستنتج، ويتعلم بالاختبار، ويتأمل كالإنسان، وانحطاطه عنه في ذلك كمي فقط. ونواميس الفكر في الحيوانات العليا هي كما في الإنسان، ومعرفة الأسباب واستخراج النتائج يتمان في كليهما على شرائط واحدة، وكل النظامات السياسية والاجتماعية للإنسان موجودة في الحيوان، ولكن على سبيل الرسم، وقد تكون أكمل فيه منها في الإنسان.
والخلاصة أن حياة الحيوان العقلية لم تعلم إلا قليلا حتى اليوم، وقد حطت جدا عن مقامها؛ لأن أساتذتنا الفلاسفة الذين جعلوا درس هذه المسائل محصورا بهم قد بنوا أحكامهم على أمور مجردة لا على الاختبار، وأما الذين يدرسون هذه الأشياء عن قرب فإنهم يرون أمورا غريبة كثيرة تدلهم على ما يستطيعه عقل الحيوان. ولفهم ذلك لا ينبغي الاعتماد على العلماء الذين يجلسون وراء مكاتبهم، بل على الناس الذين يخالطون هذه الحيوانات، كالصيادين والرعاة والفلاحين، وأصحاب معارض الحيوانات والمحافظين عليها، وغيرهم الذين يتيسر لهم مراقبة أعمالها العقلية. فمنهم نعلم أشياء مختلفة عما يقال عادة، فالحيوانات ليس لها عقل وعواطف كالإنسان فقط، بل لها أيضا لغات وجمعيات قد تكون منتظمة أحيانا أكثر من جمعياته، وتبني بيوتا وقصورا تفاخر بها قصورنا، وعندهم جنود وأسرى وسجون ومحاكم، وتعتني كبارها جدا بتهذيب صغارها، وربما كان اعتناؤها بذلك أكثر من اعتناء الإنسان به، وتغير أخلاقها وتكتسب كثيرا بمخالطة الإنسان - والحيوانات الأهلية شاهد على ذلك - خلافا لزعم من ينفي هذه القابلية عنها توسلا لجعل ذلك فاصلا لها. حتى ولو صح هذا الزعم لما ساغ جعله صفة خاصة به دون غيره؛ إذ إن متوحشي البشر قلما يكتسبون كذلك. وجميع فروع البشر غير متساوين في هذه القابلية، فإن أحمر الجلد والإسكيمي والبولينيزياوي والماوري والأوسترالي ... إلخ يتلاشون جميعهم كما لا يخفى بمخالطة القوم المتمدنين. ولا نعلم من قوي على ذلك، وارتفع فوق حالته الأصلية سوى الأسود الذي أدخل إلى أميركا الشمالية، وهذا أيضا في حالة العبودية وبمخالطته الإنسان «نظير الحيوان تماما». وإذا قالوا: إن الإنسان له خاصة النطق للتعبير عن أفكاره مجردة، فإنهم أيضا لا يثبتون شيئا، إذ إن الألفاظ المعبرة عن ذلك لا وجود لها في جميع اللغات الأميركانية، كما يعلم من فيلولوجية المقابلة، وكذلك اللغات الأوسترالية، وبعض اللغات البولينيزياوية، وأكثر الألسنة التي يتكلمها سود أواسط أفريقيا. وإذا أريد المقابلة بين الإنسان والحيوان فيلزم ألا تكون مع أكثر الناس تمدنا، إذ إن الفرق بينهما عظيم، بل مع متوحش أفريقيا أو أوستراليا القريب إلى الحيوان جدا، وإن كان يطلق عليه اسم الإنسان نظيرنا. وإذا كان الأستاذ بيشوف المشرح والفيسيولوجي الشهير يرى فرقا بين الإنسان والحيوان في أن الإنسان له - ما عدا الضمير - شعور بالذات أيضا يعرفه «أنه قوة يقدر الإنسان بها أن يتأمل بذاته، وبسائر أحوال الأشياء ونسبتها إلى باقي الخلق»، فيليق بنا أن نسأله إذا كان يعتقد أن ابن زلاندا الجديدة، أو متوحش الأمازون، أو ابن جزائر فيليبين، أو الإسكيمي، أو البوتوكودي حتى الصعلوك الأوروباوي له ذلك أيضا؛ أي إنه يستطيع أن يتأمل في هذه الأشياء الجميلة؟! لكنه يقول هو عنهم: إنهم أناس تائهون متوحشون لم تنم فيهم «الصفة البشرية الخاصة»، ولسوء البخت لا يذكر من أين جاءنا بما يسميه «الصفة البشرية الخاصة» إن لم يكن من مراقبة نفس الإنسان. وهو ينقض كلامه بكلامه إذ ينفي عن أناس هم بالحقيقة بشر الصفة المميزة للبشر على زعمه، ولم يبين إمكان ظهور هذه الصفة بطريقة من الطرق. على أننا نعلم علم اليقين من الحوادث الجلية - كما قلنا مرارا - أن الفروع السفلى الأقرب إلى الحيوان منها إلى هذا الإنسان التصوري الذي خلقه بيشوف ، ليس أنها لا تقبل التهذيب فقط، بل تهلك إذا أريد إخضاعها له أيضا.
وبيشوف منفرد وحده بين الفلاسفة الذين حشر نفسه بينهم في تعريفه الإنسان، فالإنسان من أي طبقة كان، والحيوان كذلك لهما هذا الوجدان أو العلم بما يسمونه «أنا»، أو كما يقولون أيضا: الشعور بالذات، ولا ينفيه - كما يقول شوبنهور - عن الحيوان بدون أدنى سبب ظاهر إلا الفلاسفة الذين لا شعور لهم. ويقول أيضا: «إنه يلزم أن يقع أحد هؤلاء الفلاسفة بين مخالب النمر؛ حتى يتعلم على نفقته كيف يفرق الحيوان بين ما هو «أنا» وما ليس «بأنا»!»
والعقل ليس قوة خصوصية، بل مجتمع القوى العاقلة - كالتأمل والاستقراء والتصور - يسمى عقلا، وهو ليس خاصا بالإنسان وحده، بل هو في الحيوان أيضا، قال شفهوزن: «ليس من العدل أن نقيم حاجزا حصينا بين الإنسان والحيوان بقولنا: الإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. وكيف يجوز جعل العقل صفة مميزة لسائر البشر على السواء؟ ونحن نعلم أن بين فروع البشر، بل الأفراد تفاوتا من هذا القبيل،
Unknown page