Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
وللتحول، وأيضا السهولة التي بها يتغير الجنين في أطواره الأولى من التكوين لأقل الأسباب تغيرا يبعد به كثيرا عن أشكال نموه الأصلي؛ مما يستنتج منه أن العالم العضوي قائم على رسم أساسي يكون بموجبه ميل لأبسط الصور للبروز في أشكال متغيرة أكثر فأكثر.
وإني وإن كنت مع دارون لا أسلم بوجود رسم أساسي لأسباب أعدها كافية، إلا أنني أعتبر فكر كوليكر قابلا لأن يكون ذا شأن عظيم إذا اتسع وتأيد بالأبحاث الحقيقية، وهو الآن مستند إلى كثير من الحوادث التي تتبين قابلية الجراثيم والبيوض والأجنة للانفعال بالعوامل التي من خارج. وعليه، فإنه يمكن تغيير التفريخ من بيض الفراخ على نوع معلوم بوسائط معلومة، ويمكن أيضا توليد متولدات غريبة بإحداث بعض عاهات في الجنين. ومما يؤثر جدا في تحول الأجنة طعام الوالدين من حيث الكثرة والقلة. والنحل يحول فروخ العاملات منه فيجعل منها ملكات؛ وذلك بعزلها وحدها والاعتناء بها اعتناء خصوصيا، وتقديمه لها طعاما وافرا. والنمل يجعل الشاغلات منه تبلغ غاية نموها باعتناء خصوصي بها. وبعكس ذلك فعل أدوار فإنه منع فروخ الضفدع من أن تبلغ وتصير ضفادع بحجب النور عنها، ليس لأن نموها توقف، كلا، فإنها بلغت قدرا هائلا، إنما بقيت في حالتها الفرخية وبأذنابها. وأجاسيز قال: إنه إذا اعترضت أحوال خارجية نمو جرثومتين متشابهتين في درجات مختلفة من نموهما، فقد ينشأ عنهما نوعان مختلفان.
ولئن كان مذهب دارون غير كاف لرفع الحجاب عن سر الحياة مرة واحدة، بل اقتضى لذلك عوامل أخرى أيضا، إلا أني لست أرى في ذلك ما يحط من قدره؛ لأن التقدم ولو خطوة واحدة في سبيل كثير العقبات كهذا يحسب نجاحا كبيرا، ففضل دارون لا ينقص إذا وجد العلم أن الطبيعة تستخدم عوامل أخرى أيضا لتحويل الأحياء.
ولدارون فضل في إدخال الفلسفة في العلوم الطبيعية، وفي نقض ما كان من الأوهام سائدا على العقول. فإن هذه العلوم لم يكن يسمح لها من قبل إلا بالمراقبة، وتجميع المواد وترتيبها وما شاكل، ولا سيما أن تقسيم الأعمال قد بلغ في عصرنا مبلغا يستحيل معه كل اجتهاد للتعميم. فكان يلزم رجل واسع الاطلاع، صحيح العلم، جامعا إلى علمه الميل الفلسفي الصحيح، حتى يقدم على مثل هذا الأمر غير خاش غضب أصحاب التقاليد، أو خائف أن يتيه في تعاريج الفلسفة القديمة للطبيعة. لأن المتعلقين على الدروس الخاصة هم بواقع الأمر قاصرون عن ذلك، فالأشجار على رأي المثل تمنعهم أن يبصروا الغابة.
ولإدخال الفلسفة في العلوم الصحيحة نتيجة أخرى، ربما كانت أعظم من مذهب دارون نفسه فلسفيا؛ ألا وهي إزالة الاعتقاد بالأسباب الغائية من دائرة العلوم الطبيعية، أو العلم عموما ببراهين قاطعة. ولا يخفى أن بعض فلاسفة الطبيعيين كانوا قد فندوا هذا الاعتقاد من قبل بالحجج المنطقية، ونجحوا بعض النجاح، ولا سيما في علم الطبيعيات، حيث لم يبق له أثر خلافا لباقي العلوم، ولا سيما علم اللاهوت الذي يجعل الأسباب الغائية أساس حجته وغاية برهانه؛ إذ يجد بها أن وضع الأنف في وسط الوجه، وعدم وضع العينين في إبهام الرجل غاية في الإحكام، ونهاية في الحكمة.
نعم، إن الذي ينظر إلى هذه الأعضاء نظرا بسيطا باعتبار فائدتها ونسبتها إلى الأحوال المختلفة للطبيعة بقطع النظر عن الماضي، يجد فيها من الموافقة والمطابقة ما يحسبه مقصودا، وأما العلم فلا يبحث فيما هي عليه من النظام اليوم فقط، بل فيما كانت عليه في الماضي أيضا، وبأي الطرق الطبيعية وصلت إلى ما وصلت إليه من الإحكام على نوع غير محسوس. وهنا يبسط لنا مذهب دارون التعليلات الصريحة، والأدلة المأخوذة ليس من الفلسفة وحدها فقط، بل من الحوادث والأمثلة الحية أيضا. وألد أعداء الفلسفة المادية وهو الأستاذ شليدن لما قرأ كتاب دارون، اضطر أن يصرح جهارا ببطلان القول بالأسباب الغائية في الطبيعة.
16
ففي ما تقدم من الأمثلة ما يكفي على ظني للتعليل طبيعيا عن سبب ما في الأعضاء من الموافقة، فمن الجهة الواحدة على مبدأ الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، تقوى الأعضاء الموافقة والصفات المناسبة على سواها في الدهور الطويلة، بحيث تثبت أخيرا، ومن الجهة الثانية على مبدأ الارتقاء والوراثة، تحفظ في الأجسام الحية أعضاء لا فائدة لها، وقد تكون مضرة أيضا.
وقد ذكر دارون مثالا لهذه آذان النباتات المتعرشة، فإنها مفيدة في مثل هذه النباتات، ولكنها توجد أيضا في نباتات أخرى لا تتعرش حيث لا فائدة لها. وتعري جلد رأس دود الجثث يظهر أنه في غاية الإحكام لمعيشته؛ لأنه يغل في الجثث المتعفنة، ولكننا نرى ذلك أيضا في رأس ديك الحبش الذي ليس له هذه الضرورة. وقالوا: إن تداريز الجمجمة في صغار ذوات الثدي هي لقصد تسهيل الولادة، ولا ننكر فائدتها والحالة هذه، ولكن لا يصح القول بأنها وضعت لذلك؛ لأنها موجودة أيضا في جماجم صغار الحشرات وصغار الطير التي تخرج من البيضة. والغشاء بين الأصابع في الفرقاطة، وفي الإوز الأرضي لا فائدة له فيهما، بل هو مضر في حالتهما الحاضرة، ولكن لا يزال فيهما بسبب الوراثة. والعظام المتفقة الكائنة في ذراع القرود، وفي القائمتين المقدمتين للفرس، وفي جناح الخفاش، وفي زعنفة الفقم، لا تفيد هذه الحيوانات شيئا، وإنما هي بقايا موروثة من أجداد انقرضت منذ زمان طويل. وناب الأفعى السام وقناة البيض في الأكنمون لا ينطبق وجودهما على الأسباب الغائية أو الفائدة؛ لأنهما مضران بغيرهما من الكائنات الحية. وحمة الزنابير والنحل لا فائدة بها؛ لأن صاحبها يموت بعد استعمالها ... وغير ذلك كثير.
والإنسان الذي هو غاية في الإتقان فيه أعضاء كثيرة لا فائدة لها، وقد تكون مضرة وسببا لأمراض قتالة، مثال ذلك الغدة الدرقية
Unknown page